يصوّر الدكتور مصطفى علّوش الفدراليّة بمطلع مقاله (تهافت الفدراليّين – موقع أساس) على أنّها تعبير عن “عودة البشر الى غرائزهم الأساسيّة الحيوانيّة”، ورغبة من البعض باللجوء الى “الأمان في القلعة المذهبيّة أو الطائفيّة”. هذا سوء فهم للطرح لعلّ مصدره الخلط القديم بين ما جرى بالحرب الأهليّة اللبنانيّة، والتفكير الفدرالي. بالحقيقة، خلفيّة الفدراليّة ليبراليّة؛ وجوهر الطرح الفدرالي مفاده أن لا ضرورة للبشر أن يتشاركوا كلّهم نفس الهويّة والتفكير كي يتجاوروا بسلام. وان كان لي أن ألخّص التفكير الفدرالي بمعادلة، لقلت أنّ الفدراليّة هي (Vivre et laisser vivre). ووفق التفكير الفدرالي، لا مشكلة ان رأت غالبيّة المواطنين بصيدا، مثلا، منع المايوه على شواطئها، طالما فهم أهل صيدا أنّ أهل جونيه، مثلا، لا مشكلة لهم مع الأمر (والعكس). ولا مشكلة لو صوّت برلمان محلّي بالنبطيّة أو طرابس، مثلا، على منع الزواج المدني بنطاقه، شريطة أن يفهم أهل النبطيّة وطرابلس أنّ الزواج المدني مسموح بالمتن، مثلا (والعكس). وما هو صحيح في مسائل كهذه، صحيح بكلّ المسائل الأخرى.
والحال أنّ أزمة الفدراليّة بلبنان هي رافد من روافد أزمة الليبراليّة ببلادنا، والمنطقة. للتذكير: العالم العربو-اسلامي أنتج تياريّن كبيرين فقط بالقرن الماضي، عنيت الاسلام السياسي (داعش؛ حزب اللّه؛ الاخوان؛ الخ)، والقوميّين العرب اليسارويّين (البعث؛ الناصريّة). هذا التيّار، كما ذلك، انتي-ليبرالي بالعمق. فكّر بمنطق جمهور الحزب الخميني بلبنان اليوم، على مواقع التواصل الاجتماعي: ان لم تكن معه، فأنت بالضرورة صهيوني من “عملاء الداخل”. فكّر، أيضا، بسرديّات النظام الناصري وادائه، كما باداء وسرديّات البعثين العراقي والسوري: ان لم تكن مع النظام، فأنت بالضرورة رافد محلّي للمؤامرة “الامبرياليّة” العالميّة. في منطقتنا، المختلف مشبوه؛ وليس صدفة شيوع التعبير الرهيب فيها “الانصهار الوطني”، كأنّ البشر والمجتمعات معادن ل”ينصهروا”.
هذه، بالحقيقة، خلفيّة من خلفيّات رفض الفدراليّة التي يعاكس منطقها منطق “الانصهار”، لصالح القبول بدون عقد أو فلسفة بحقيقة أنّ الخلافات الدينيّة أو الجهويّة أو اللغويّة بين البشر تنتج على مرّ العصور جماعات بهويّات متمايزة، كما هي حال المسيحيّين، والدروز، والشيعة، والسنّة بلبنان؛ أو الأكراد، والسنّة، والشيعة بالعراق؛ أو الوالون، والفلامند ببلجيكا؛ أو الكاثوليك والبروتستانت في سويسرا، الخ. يسأل التفكير الفدرالي/الليبرالي نفسه أن حسنا: هذه جماعات متمايزة، ولكنّها تعيش على أرض واحدة. ما السبيل لاخراجها من فخّ الحرب الأهليّة المتكرّرة؟ الجواب: السماح لها بأكثر درجة ممكنة من ادارة شؤونها ذاتيّا، كي لا تفرض جماعة واحدة هويّتها وخياراتها على الآخرين. للأٍسف الشديد، يأخذ الدكتور مصطفى علّوش أكثر تصوّر ليبرالي (وراقي) ممكن لادارة الخلاف بين الجماعات ويصورّه بعنف لفظي مؤسف كعودة الى “غريزة حيوانيّة” ومعاقل طائفيّة مقفلة.
2) يأسف الدكتور مصطفى علّوش بمقاله لأنّ الفدراليّين يستندون بتفكيرهم الى “أمثلة سويسريّة أو بلجيكيّة أو اماراتيّة أو أميركيّة، مزيّنة بخطاب هادئ ورزين و”علمي”. هذه المسألة بالتحديد تثير الذهول لجهة أنّ شخصا حائزا على شهادة دكتوراه (بالطبّ) يزعجه أنّ هناك من يعمد الى مقاربة بالاستعصاء اللبناني انطلاقا من أساس التفكير المنهجي للمسائل والاشكاليّات بالعلوم الاجتماعيّة، عنيت الطريقة المقارنة The) Comparative Method). فكّر، مثلا، بدراسات الحروب الأهليّة. يعلم أيّ مهتمّ بها أنّ بعض الحروب يمكن أن يستمرّ لعقود دون ايقاع ضحايا كثر (الصراع بايرلندا الشماليّة، مثلا)، وبعضها الآخر ينتج عشرات أو مئات آلاف القتلى بسرعة (لبنان؛ سوريا؛ رواندا؛ الخ). كيف يمكن أن نفسّر الفارق هنا؟ أي محاولة جواب ستبدأ بالضرورة بدراسة عشرات الحالات من حروب العنف المنخفض، وعشرات الحالات من حروب العنف المرتفع، ثمّ مقارنة المعطيات (Variables) التي تميّز الحالات عن بعضها، بما يسمح ببناء نظريّة عامّة تفسّر لماذا بعض الحروب الأهليّة أكثر دمويّة من سواها. يعني، مثلا، لو بدا أنّ كلّ الدول التي وقعت فيها حروب أهليّة بعنف منخفض فقيرة بالمواد الأوليّة السهلة الاستخراج (بترول؛ معادن ثمينة؛ حشيشة/مخدّرات؛ الخ)، في حين أنّ الدول التي تقع فيها حروب أهليّة دمويّة غنيّة بها على وجه العموم، يمكن ساعتئذ افتراض وجود رابط سببي (Causation) بين طبيعة الاقتصاد السياسي للحرب الأهليّة، ودرجة دمويّتها. ولكنّ هذا النوع من الخلاصات من المحال تماما الوصول اليه من خلال دراسة حالة واحدة. لا مفرّ من دراسة حالات عدّة، للوصول الى خلاصة. بمعنى آخر، لا مفرّ من التفكير المقارن. وما هو صحيح بالنسبة لمسألة كدرجة العنف بالحرب الأهليّة، صحيح أيضا بالنسبة لسؤال آخر يفترض أنّه يعنينا مباشرة، قصدت السؤال التالي:أي نظام سياسي اتّبعته المجتمعات التي وقعت بفخّ الحرب الأهليّة الدائمة (Civil War Trap) ثمّ خرجت منه؟ ماذا فعل المسلمون والهندوس بالهند كي لا يتقاتلوا دوما، وان كانت المودّة مفقودة بينهم، والصدامات -للأٍسف-متكرّرة؟ ماذا فعل الوالون والفلامند ببجليكا؟ ماذا فعل الجرمانوفون والفرنكوفون بسويسرا؟ الخ. الجواب بكلّ هذه الحالات، وبحالات أخرى مشابهة للحالة اللبنانيّة، شديد الوضوح. ولكنّ الوصول الى هذه الخلاصة محال دون ثلاثيّة التفكير الامبيريقي، الوضعي، والمقارن. لذلك- أكرّر-أشعر بذهول لأنّ الدكتور علّوش يعيب على الفدراليّين تفكيرهم المقارن، وهو أساس كلّ تفكير، لو يعلم.
اضف تعليق