الرئيسية » تقارير ودراسات » احتقان أيديولوجي .. هل تعود تونس إلى المربع “صفر” ؟
تقارير ودراسات رئيسى

احتقان أيديولوجي .. هل تعود تونس إلى المربع “صفر” ؟

تمر الدولة التونسية بحالة من الاحتقان الأيديولوجي  من المرجح أن تعود على إثرها إلى المربع صفر والمقصود هنا مرحلة ما قبل الانتخابات لاسيما مع اختلال موازين القوى بين “النداء” و”النهضة”  الأمر الذي يعنى أن  مشهدًا سياسيًا جديدًا بصدد التشكل ,وسيكون رئيس الحكومة يوسف الشاهد أحد أضلاعه الرئيسية .

نبرة الغضب التى  أعلن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي نهاية توافق دام 5 سنوات مع حركة “النهضة” (الكتلة الأكبر في البرلمان بـ68 نائبًا من أصل 217)، مؤكدًا أن إنهاء التوافق كان بطلب من “النهضة” , كان فى مقابلها  لغة الهدوء التى اتسم بها بيان  النهضة والذى جاء بعد يومين من إعلان السبسى  أكدت خلالها التزامها بمسار التوافق مع رئيس الجمهورية، وتقديرها لدوره الوطني منذ انطلاق الثورة، في إرساء ثقافة التشاور والحوار بين الفرقاء السياسيين، في مواجهة خيارات التفرد والإقصاء.” مضيفاً  أن “الاختلاف في وجهات النظر حول قضايا البلاد لا يعني تنكُّرها للعلاقة المتينة التي تربطها بالرئيس التونسي؛ بل أن الاختلاف من صميم الحياة الديمقراطية وجسامة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تشغل الرأي العام الوطني”.

انفراط عقد التوافق بين النهضة ونداء تونس والذي بدت أسبابه غير مقنعة نجم عن اشتراط زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي على رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، تقديم موعد الانتخابات، حتى تسحب مساندتها لحكومة يوسف الشاهد، فى المقابل طالب السبسى الغنوشى  أن يتخلّى عن دعم رئيس الحكومة حتى يفرض إرادته السياسية ويضمن أغلبية برلمانية لتفعيل صلاحياته وفق الفصل 99 من الدستور, ومع إخفاق الجانبين فى التوصل إلى صيغة ملائمة أعلن الباجي قائد السبسي أنه قطع علاقته مع حركة النهضة قائلا “لست أنا من أعلنت القطيعة.. قلت لهم تصحبكم السلامة” ملمحاً إلى الثمن الباهظ الذى دفعه “نداء تونس ” نظير التوافق مع النهضة وإلى  تحدي الغنوشى  للاستقرار الحكومي ولإرادة رئيس الدولة الذي نصح في وقت سابق رئيس الحكومة بالاستقالة.

خطاب القطعية مع النهضة يأتي في إطار استعداد السبسي وحزب “نداء تونس”  للتحضير لانتخابات 2019 على أرضية سياسية  ترمى إلى دفع الشارع  إلى  “تصويت الضرورة” واستقطاب المنشقين عن نداء تونس بسبب تحالفه مع النهضة فى 2013 ، فضلاً عن أن مغازلته للمرة الأولي لرئيس الجمهورية السابق منصف المرزوقي ووصفه  بـ”الدكتور، والرئيس السابق” يمكن قراءته على أنه نوع من النكاية بالنهضة أو محاولة لتذكيرها أنها سبق وخانت المرزوقى فى الانتخابات الماضية   والذي  رفض على إثر ذلك حضور مؤتمرها معتبرا أن الأمر “سيكون من باب النفاق” ورفض كذلك  مصافحة راشد الغنوشي في مؤتمر حزب التكتّل بل وبلغ حد تحميله لحركة النهضة وزر انتكاس الثورة لذلك يحمل  توجه السبسى في خطابه نحو المرزوقي رسائل عدة  مفادها أن تخلى النهضة عن التوافق اليوم ليس الأول من نوعه. وأن المنشقين عن  “حراك تونس الإرادة”عبر بيان الـ82 والذي ركّز على أن الخلاف بينهم وبين المرزوقي، إنما سببه الولاء لقطر وتركيا وللنهضة يمكنهم الانضمام لـ” نداء تونس”.

 

فاتورة التحالف مع النهضة سددها ” نداء تونس ” بامتياز إذ أن التوافق الذي خطف أنظار العالم فى باريس من عام 2013 على الرغم من أنه كان ضرورة ملحة ,حينذاك , فى ظل حالة الاحتراب السياسي والتي كادت تعصف بالبلاد غير أنه كان بمثابة انتحار سياسي لحزب نداء تونس لاسيما وأن الأخير تبنى أيدلوجية علمانية على النقيض من حركة النهضة ذات التوجهات الإسلامية مما أفقد نداء تونس الكثير من شعبيته فى الشارع فضلاً عن حدوث انشقاقات داخله أفضت إلى خروج غالبية قياداته المؤسسة وانخراط العناصر المتبقية فى صراعات  استنزفت الحزب وحولته إلى ظلال بلا واقع  وإلى حزب منهزم في الانتخابات البلدية الأخيرة، كما لم يعد قوة مؤثرة فى البرلمان أو حتى الحزب الثاني نظراً لحالة التشظي  والتي تفقده كل يوم نائباً من نوابه .

عاصفة الأزمات الداخلية اجتاحت نداء تونس منذ نهاية عام 2015 حيث أفضت إلى انسحاب العديد من قياداته وتقلصت أغلبيته البرلمانية إلى 55 نائباً بعدما فاز بـ86 مقعدًا في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014. وازدادت حدة الانقسامات  والتي خرجت على رؤوس الأشهاد أواخر أيار/مايو الماضي، عندما أقر الشاهد، بوجود أزمة سياسية تمر بها البلاد، محملاً مسؤوليتها لحافظ السبسي نجل الرئيس والمدير التنفيذي لنداء تونس .و رد الأخير  على الشاهد فى بيان أكد خلاله أن  “الحكومة الحالية تحوّلت إلى عنوان أزمة سياسية، ولم تعد حكومة وحدة وطنية”.ونُقل عن الشاهد أنه انتقد علناً في أكثر من مناسبة، داخل قصر قرطاج (الرئاسي) نجل الرئيس بحضور والده وزعيم “حركة النهضة” وقيادات نقابات العمال ورجال الأعمال. وذهب رئيس الوزراء إلى حد تحميل قائد السبسي الابن مسؤولية الأزمة السياسية التي يواجهها الحزب الحاكم والتي تسببت في تراجع شعبيته بنسبة 70 في المائة خلال انتخابات مايو الماضي مقارنة بانتخابات أواخر 2014.

الأزمة داخل حركة “نداء تونس″، أدت إلى انقسام الحزب الحاكم حول مصير الحكومة التي يترأسها يوسف الشاهد (المنتمي إلى الحزب إلى فريقين : الأول داعم للشاهد وحكومته، والآخر يدعم المدير التنفيذي للحزب ونجل الرئيس ، حافظ قائد السبسي .وفى حين يدعو الأول إلى إجراء تعديل يقدم نفسه على أساس الهيئة السياسية للحزب (كان له 86 نائباً والآن 56 من أصل 217)، يطالب الثاني بتغيير الحكومة.ودخل الصراع منحى من  التعقيد بعد رفض رئيس الوزراء يوسف الشاهد طلب الرئيس التنحي من منصبه أو تغيير حكومته. مبرراً  تمسكه بمنصبه بما أطلق عليه ” التداعيات الخطيرة ” والتي يمكن أن يسفر عنها تغيير الحكومة في هذه المرحلة الحرجة التي تتطلب الحفاظ على الاستقرار السياسي فى ظل الأوضاع الراهنة وقرّرت حركة “نداء تونس” منتصف سبتمبر/أيلول الجاري، تجميد عضوية رئيس الحكومة يوسف الشاهد، في الحزب، مع إحالة ملفه إلى لجنة نظام الحزب (الانضباط)، لتنظر فيه.ومع مطلع سبتمبر الجاري وبالتزامن مع تأسيس كتلة “الائتلاف الوطني” بقيادة الشاهد  استقال نحو 8 نواب لينحصر تمثيله في 47 نائباً  في حين ارتفع العدد بالكتلة الأخيرة إلى 43 نائبًا.

السبسي رغم دهائه السياسي أخفق فى احتواء الأزمة ولم يستطع تقليم أظافر النهضة على الجانب الآخر نجحت هي في اختراق حزبه  واستخدمت نداء تونس كغطاء علماني فقد كانت الحركة بوصفها نموذجاً للإسلام السياسي في تونس والمرفوض محلياً وإقليمياُ الرابح الأكبر من التحالف مع الحزب ذو التوجهات العلمانية ،والذي أضفى على نشاطها مشروعية، وأعطى انطباعات جدية حول تبنيها لمقولات الدولة المدنية والحرية والديمقراطية،مما أدى إلى ترسّيخ أقدامها في المشهد السياسي ولكن فى ظل بعثرة أوراق نداء تونس اتجهت الحركة التي لا تراهن على الجياد الخسارة إلى ترتيب أوراقها مجدداً وفقا لمقتضيات المرحلة بانتظار يوسف الشاهد “الحليف الجديد ” والذى يمثل المشروع ذو الأغلبية بالوقت الراهن فضلاً عن كونه  يحظى بقبول الدوائر الخارجية .

براغماتية النهضة السياسية تتمثل في استفادتها كذلك, من حالة الفراغ السياسي ومن النزاعات الأفقية بين الأحزاب والتي على إثرها أضحت الكتلة الأكبر فقد شهدت جميع الأحزاب  انشقاقات باستثناء النهضة والجبهة الشعبية .وفى ضوء المشهد الراهن لا يمكن لأي  فصيل حزبي أو سياسي أن يصل لقمة السلطة ويشكل الحكومة  دون موافقتها باعتبار أنها تمثل الأغلبية، فكتلة نداء تونس لم تعد تعدّ 86 نائباً والنهضة تستحوذ حاليا على نحو  69 مقعداً,ولن يتغير الوضع  إذا تحالفت كتلة يوسف الشاهد مع قوى أخرى مثل الجبهة الشعبية وآفاق تونس، ولكنه أمر مستبعد في ظل حالة التنافر بين هذه القوى .

 

 

ومع ذلك يرى خبراء أن  أن الحديث عن فض التحالف بين النداء والنهضة هو من قبيل المناورة السياسية  إذ أن الرئيس السبسي ليس حريصاً على القطيعة مع النهضة وقد قدم تنازلات تجاهها في حديثه ، لافتين  إلى أن من يتحدث عن نهاية قريبة لحزب نداء تونس عليه أن يقول ما هو البديل عنه ,لذلك يؤكد البعض أن نداء تونس أمامه ثلاث احتمالات إما أن يندثر، أو أن يبقى أقلية، أو أن يتخلى حافظ قائد السبسي لتعود عناصر الحزب القديمة، وهي فرضية شبه مستحيلة .

مسارات الأحداث تؤشر إلى أن ثلاثي الأزمة ” النهضة – النداء – الشاهد ” ليس لديهم أى رغبة فى إنهاء صراعاتهم الداخلية وأن تونس قد تعود إلى النقطة صفر ,ففى ظل علاقة التوجس التي تجمعهم وشعور كل طرف أن تحالفه مع الآخر حالة مؤقتة, فبينما يراهن السبسي أن التوافق  الناشئ بين الشاهد والنهضة لن يستمر , تجد النهضة, بفك ارتباطها مع الرئيس ، نفسها في علاقة متوترة مع الأطراف المشكلة لوثيقة قرطاج وتخشى أن  تخسر كل شيء إذا وقعت مصالحة بين السبسي ورئيس الحكومة ،فضلاً عن أن الشاهد نفسه لا يزال غير واثق من دعم النهضة له