هل نجح الرئيس الأميركي فيما أخفق به الآخرون ؟
كان وصول الرئيس “ترامب” للبيت الأبيض بمثابة إلقاء حجر في بحيرة الأحداث التي ظلت راكدة لنحو ثماني سنوات, إذ أن ظهوره على المسرح الدولي مثل نهاية لحقبة ناعمة تركت بصماتها السلبية على المنطقة وأوقعتها بين براثن التنظيمات المتطرفة والتمدد الإيراني .
فعند تحليل استراتيجيات الرئيس الأميركي فيما يتعلق بالعديد من الملفات الشائكة لاسيما دوافعه واتجاهاته حول تعديل سلوك النظام الإيراني ومسارات عملية السلام بالشرق الأوسط ,سيتضح أن الرئيس ” ترامب ” ربما يكون قد نجح فيما أخفق به الآخرون , إذ لم تكن التعقيدات المتشابكة ة بالشرق الأوسط خلال السنوات الماضية سوى صورة منعكسة للسياسات الأميركية الرخوة باتجاه المنطقة والتي أفضت إلى استلام تيارات الإسلام السياسي مقاليد الأمور وسقوط المزيد من العواصم العربية تحت الهيمنة الإيرانية .
ومع استعداد إدارة ” ترامب” لتطبيق الحزمة الثانية من العقوبات على إيران في الخامس من نوفمبر الجاري وهي تستهدف وقف صادرات النفط الخام الإيراني بشكل تام في محاولة لخنق اقتصادها بشكل تام لإجبارها على الجلوس على طاولة المفاوضات , يبرز السؤال الأهم وهو.. لماذا يجب فرض عقوبات على إيران ؟
الإجابة على هذا التساؤل تستدعى الوقوف على موقف الإدارة الأميركية السابقة وانعكاسات اتفاق السداسية الدولية وطهران على المنطقة .
الشرق الأوسط كان أول المتضررين من خطة العمل المشترك , فقد عملت إدارة أوباما من خلال الصفقة النووية على إعادة تأهيل النظام الإيراني , وأسهمت ولو بشكل غير مباشر في إطلاق يده بالمنطقة بل وأتاحت له عبر تجميد العقوبات مصادر التمويل الكافي لتنفيذ سياسته التوسعية وامتد قوس النفوذ الإيراني أو محور الممانعة الذي أنشأته طهران في المنطقة العربية. بدءاً من لبنان ، الذي تحوّل إلى مجرد مقاطعة إيرانية يهيمن عليها تنظيم “حزب الله , إلى سوريا، مروراً بالعراق ووصولاً إلى اليمن وانفتحت الشهية الإيرانية لابتلاع تونس وليبيا والتوغل في العمق الأفريقي بنيجريا .
نشوة الانتصار لدى أقطاب طهران انعكست بشكل واضح في تصريحات قاسم سليماني قائد فيلق القدس الذراع الخارجية للحرس الثوري العام قبل الماضي حين قال “”الدلائل على تصدير الثورة الإسلامية إلى عدد من المناطق باتت واضحة للعيان، فقد وصلت إلى كل من اليمن والبحرين وسوريا والعراق وحتى شمالي أفريقيا”، وعبر عنه علي يونسي، مساعد الرئيس الإيراني حسن روحاني، والذي شغل منصب وزير الاستخبارات سابقاً، في مارس 2015 عندما تحدث عن سيطرة إيران على العراق والعالم العربي، وقال إن “بغداد أصبحت مركز الإمبراطورية الإيرانية الجديدة , المشروع التوسعي أقرّ به قادة إيرانيون، منهم وزير الاستخبارات الإيراني في حكومة الرئيس السابق ومندوب مدينة طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرّب من الولي الفقيه الخامنئي بأن “صنعاء هي رابع عاصمة عربية تُصبح بيد ايران، بعد بيروت ودمشق وبغداد”.
تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة شكل علامة فارقة , حيث كان باديا أن موقف واشنطن من النظام الإيراني قبل ترامب لن يكون مشابها لموقفها بعده.فالرئيس الجمهوري تحدث أكثر من مرة عن استيائه من الاتفاق النووي الذي أبرم في عهد سلفه باراك أوباما، بين مجموعة 5+1 من جهة وإيران من جهة أخرى في عام 2015.
استراتيجة “ترامب ” كانت واضحة أثناء حملته الانتخابية حيث وعد خلالها بتمزيق هذا الاتفاق واستمر في مهاجمته بعد توليه الرئاسة واصفاً إياه بـ”الأسوأ فى التاريخ ” وبأنه أسهم فى تحقيق مكاسب للنظام الإيراني دون أن يكبح جماح رغبتها في تخصيب اليورانيوم فضلاً عن أنه سمح لطهران بتجاوز كميات الماء الثقيل المحددة . ولعل أحد أهم المكاسب التي حققتها إيران من الاتفاق النووي هو المحافظة على البنية التحتية لبرنامجها النووي وحقها في تخصيب اليورانيوم واستمرارها في إجراء الأبحاث الخاصة بذلك وذلك ضمن ضوابط وشروط مراقبة صارمة يتم النظر في إلغائها بعد فترة فخلال سنوات التفاوض سعت إيران إلى رفع العقوبات والتخلص من القيود الاقتصادية والعسكرية للعزلة مع الاحتفاظ بقدرات تطوير برنامجها النووي إذا تطلب الأمر وقد عاونها على تحقيق ذلك “اوباما” والذي كان يرغب بشدة فى توقيع الاتفاق ليضاف إلى سجل إنجازات إدارته فى ملف العلاقات الخارجية .
التحذيرات الأميركية والتي استمرت لشهور طويلة , لم تمنع نظام طهران من الاستمرار فى إعلاناته المتكررة حول إجراء تجارب صاروخية لاختبار التطوير المستمر لمنظومتها الصاروخية، كان آخرها الإعلان عن صاروخها الجديد (خرمشهر)، أواخر سبتمبر/أيلول 2017، الذي يمثل أحدث نموذج بالمنظومة الصاروخية الباليستية الإيرانية، وباتت قادرة على استهداف القطع العسكرية الأمريكية في مياه الخليج العربي.
لهجة “ترامب” التصعيدية قابلها نظام الملالي بمزيد من التعنت فقد اكدت إيران على لسان كافة مسئوليها رفضها التام إجراء أي تعديلات على بنود الاتفاقية و السماح للمفتشين الدوليين بزيارة المواقع العسكرية الإيرانية أو المساس بقدرتها الدفاعية الصاروخية , و لخص الموقف الإيراني تغريدة لوزير خارجيتها محمد جواد ظريف علي تويتر قال فيها ” “إما كل شيء أو لا شيء ” فى إشارة إلى إصرار نظام طهران على المضي قدماً في سياسته .
بل وقلل بعض قادة النظام من تداعيات الانسحاب الأميركي وهو ما أعرب عنه نائب قائد الحرس الثوري قائلاً : “لا أهمية لانسحاب أمريكا من الاتفاق النووي لأن إيران ستحقق مزيداً من التقدم وتتخلص من العقبات، وقد أوجدت قوة عظيمة لها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، بينما ليس لأمريكا قوة هناك ، وهي لا تملك استراتيجية في سوريا والعراق، فمهما استخدمت من قوة لن يحدث أي تأثير لذلك.
وفى ظل تمادى الملالي في المراوغة والمكابرة باتت الحاجة ملحة لاتخاذ خطوة عملية ذات نتائج ملموسة على الأرض لاسيما بعد تجاهل خارطة بومبيو والتي تضمنت 7 محاور رئيسية و قائمة من 12 مطلبا يتعين على إيران تلبيتها لرفع العقوبات وتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة وحلفائها ,ومن هذه الشروط إعلان إيران “أهدافها من البرنامج النووي وإقفال مفاعلاتها”، وكذلك وقف إيران لما وصفه بومبيو بتهديداتها لجيرانها والتهديدات الصاروخية للسعودية والإمارات، إضافة إلى وقف دعمها لحزب الله وحركات حماس والجهاد وأنصار الله وسحب قواتها من سوريا.
حملة الضغوط القصوى للرئيس ترامب ترمي إلى الضرب بقوة شديدة ومن ثم التفاوض من موقع قوة بغية إرغام النظام الإيراني على تعديل سلوكه والجلوس مجدداً على طاولة المفاوضات وذلك عبر انتهاج عدة مسارات تهدف إلى منع إيران من الحصول على السلاح النووي،فرض عقوبات مشددة على الحرس الثوري الإيراني، (الذي أدرج مؤخراً ضمن قائمة العقوبات الأمريكية)، والتصدي لأنشطته التي تنهب ثروة الشعب الإيراني، ، وحشد المجتمع الدولي لإدانة “الانتهاكات الصارخة” للحرس الثوري لحقوق الإنسان، و”الاعتقال غير العادل” لمواطنين أمريكيين وأجانب وفقاً لاتهامات باطلة فضلاً عن التضييق على أذرع إيران العسكرية خارج حدودها؛ إذ أن الدكتاتورية الإيرانية تبقى أكبر داعم للإرهاب في العالم وتقدم المساعدة لتنظيم القاعدة وحركة طالبان وحزب الله وشبكات إرهابية أخرى.
أجندة الضغط الأميركية تركز على الساحة الداخلية باعتبارها الرحبة الأنسب لإحداث التأثيرات المطلوبة والجذرية بسلوك طهران في ظل تشابك أطراف الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد أسفر انسحاب ترامب من الاتِّفاق النووي و تطبيق الحزمة الأولى من العقوبات إلى تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة واندلاع موجة من الاحتجاجات والإضرابات المتواصلة والتي تؤشر على عمق السخط الشعبي على النظام . هذا إلى جانب انسحاب العديد من الشركات بالمخالفة لرؤية حكوماتها وذلك خوفا من العقوبات ومن خسارة أهم سوق اقتصادية كالولايات المتحدة.
إصرار الرئيس ترامب على تنفيذ الحزمة الثانية ستشكل ضغطاً متزايدً على الحكومة وربما تدفع نحو المزيد من الاستقالات بحكومة الرئيس حسن روحاني وترفع من وتيرة الانقسامات بين التيار الإصلاحي والمتشدد ، ولاسيما أنها تعد الأخطر هذه المرة حيث ستستهدف بالأساس المورد الرئيس للميزانية الحكومية وترمي إلى وصول الصادرات الإيرانية إلى المستوى صفر وتعويض النقص بالمعروض من خلال حلفائه الخليجين ، وإذا تم تطبيق هذه الحزمة بالكامل, فهي ستمتد إلى تضييق الخناق على الموانئ والنشاط التجاري للنظام الإيراني حينها قد يجد النظام نفسه مضطراً للتفاوض.
في الحالة الإيرانية , يتمثل الهدف الاستراتيجي للرئيس ترامب فى تكثيف الضغوط والعقوبات بالاعتماد على سياسة النفس الطويل حتى يستسلم الملالي ويرضخون للمطالب الأمريكية والتي لا تتضمن فقط كبح برامجها النووية والصاروخية بل تمتد أيضا لوقف أنشطتها التخريبية والمزعزعة للاستقرار ., الأمر الذي ,سيكون لها تداعيات إيجابية على المنطقة , إذ أنها ستشكل حصنا في مواجهة العدوان والإرهاب والتطرف الإيراني، وسوف ترسي السلام بالشرق الأوسط .









اضف تعليق