حلقة جديدة من الجدل العالمي حول القوة الناعمة فى مقابل نظيرتها الصلبة تم إثارتها مؤخراً على خلفية جائحة فيروس كورونا, إذ أن النظرة المتأصلة لدى بعض النقاد الغربيين هي أن القوة الخشنة أضحت من الماضي وأن السياسات الملساء باتت الأسلوب الأمثل بل الوحيد للعمل في هذا العالم المعولم.
لكن حقيقة الأمر , لا توجد قوة ناعمة دون أخرى صلبة. حيث تتعاون الدول الناشئة أو تنصت إلى الدول المتقدمة ليس لأنها تقدر قيمها أو بسبب سخاء التبادل الثقافي – بل لأن نصف الكرة الغربي بشكل عام أكثر قوة ، عسكريا وماليا. الأمر بمنتهى البساطة يتلخص أن القوة الناعمة هي عامل مكمل ولكنها بمفردها تكون عديمة الفائدة ولا طائل من ورائها .
لذا ومع انتشار كوفيد -19 في أرجاء العالم ، لم يكن مستغرباً على الإطلاق , أن نسمع نفس هؤلاء النقاد والمحللين يذكرون أنها ذلك بداية النهاية للهيمنة الأمريكية ، وأن نجد من يصف وصول أقنعة واقية من الصين لأفريقيا على أنه ظهور مفاجئ لبكين باعتبارها عملاق القوة الناعمة الجديد . بيد أن توزيع الأقنعة التي تكلف أقل من 50 سنتًا للقطعة ليس له تأثير على الوضع العالمي للصين. ومع ذلك ، فإن ديون البلدان الأفريقية للصين ، يمثل وجهاً آخر” تجارياً ” للقوة , الأمر نفسه يتضح بجلاء تام في بحر الصين الجنوبي ، حيث يشير الوجود البحري المتنامي لبكين إلى عصر جديد من النفوذ من خلال القوة الصلبة.
وفقا للروايات المتناقلة، فإن عودة نفوذ موسكو في الشرق الأوسط لم ينبع من القوة الناعمة. وإنما جاء استناداً إلى رغبة الرئيس فلاديمير بوتين في إرسال الجيش الروسي لدعم بشار الأسد عندما انسحب الرئيس الأمريكي باراك أوباما من المشهد جزئياً لإرضاء النظام الإيراني من أجل تمرير الاتفاق النووي . تلك هى الحقيقة وماعدا ذلك مجرد جمل خطابية وبلاغية , لذا ، يمكن الجزم بأن كوفيد -19 لم يغير النظام العالمي –حيث لا يزال نموذج القيادة العالمية للولايات المتحدة وسط صعود الصين في عالم متعدد الأقطاب ملائمًا
لذلك ، فإن جائحة كوفيد-19 ليست “أزمة السويس” ولا لحظة “تشيرنوبيل” ، كما وصفها بعض المحللين أثناء إلقاء اللوم على الصين لانتشار الفيروس. ولوضع الأمور في نصابها الصحيح ، يجب التذكير إلى أنه في عام 1956 ، كانت المملكة المتحدة وفرنسا قوة استعمارية كبرى، في حين أن الولايات المتحدة وروسيا كانتا تشقان مسارات صعودهما بقوة وإيديولوجية. أما كارثة تشيرنوبيل عام 1986 ، فقد جاءت في وقت كانت روسيا تقف على شفا الإفلاس وبدأت الأنظمة في التصدع. لكن اليوم ، حتى مع العبء المالي الناجم عن كورونا ، أصبحت الولايات المتحدة والصين أقوى بكثير من بقية دول العالم. ومع ذلك ، كشف الفيروس عن عيوب ونقاط ضعف في كل من هذه القوى.
وبالتالي ، فإن ما أظهرته أزمة كوفيد -19 بوضوح هو مسار محتمل للحرب بين الولايات المتحدة والصين. ليست حربا بالوكالة بل مواجهة مباشرة. قبل ذلك ، كنا ، كما نقول باللغة العربية ، “مختبئون وراء إصبعنا”. اعتبر المحللون المنافسة الاقتصادية السابقة للفيروس ، من التجارة إلى براءات الاختراع وما تلاها ،أنها بمثابة بحث عن توازن جديد بين القوتين ولم يُنظر إليها بجدية على أنها قد تفضى إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.
إذ أن هناك الآن أسباب محتملة واضحة يمكن أن تؤدي إلى مواجهة مباشرة. والسببان الرئيسيان ، في رأيي ،هما المستوى العالمي الجديد للديون وسبل الوفاء بها، والسعي للحصول على تعويضات من الصين بسبب ظهور الفيروس.
منذ الحرب العالمية الأولى ، كانت أميركا تحمي النظام الذي استفاد منه العالم بأسره . لقد كانت قوة من أجل الخير. و على الرغم من حدوث أخطاء ، فإن العالم أفضل اليوم ، مع مستويات فقر أقل وصراعات محدودة وصحة أفضل ، وذلك بسبب القيادة الأمريكية وجيشها. حتى الصين ، أصبحت قوة اقتصادية وعسكرية رائدة ، جزئياً بفضل ارتباطها مع الولايات المتحدة ، والذى بدأ بعهد الرئيس ريتشارد نيكسون . حيث ساهم اعتمادها الجزئي لقواعد السوق الحرة والعمل الجاد وإرادة التضحية من أجل المستقبل في انتشال مليار شخص من براثن الفقر ووضع بكين على المسار الصحيح لتصبح أكبر اقتصاد في العالم.
ومع نمو اقتصادها بشكل أكبر وأقوى ، استثمرت الصين بكثافة في قدرتها العسكرية ، واستعرضت قوتها الصلبة عندما اقتضى الأمر ذلك . تحولت من سياسة عدم التدخل التاريخية إلى نهج أكثر انتقائية. وهي الآن أيضًا واحدة من الدول التي تشارك في العديد من المشاريع الكبرى العابرة للإقليمية ، مما يتسبب في بعض الأحيان في قلق جيرانها. ت كما ُتعد مبادرة الحزام والطريق ، بتركيزها على الموانئ والبنية التحتية التجارية ، محاولة رائعة للربط بين الشرق والغرب ، ولكنها تؤكد أيضًا رغبة بكين فى التأثير وفق قواعدها الخاصة ، والتي تبدو معظمها مبهمة , لهذا ، إذا تحول العالم إلى توازن ثنائي القطب ، فماذا ستكون رؤية الصين لدورها؟ وما نوع القوة الرائدة التي ستكون؟ هل ستكون ذات مصلحة مسؤولة في النظام الليبرالي الحالي أم ستبحث بناء نظام جديد؟ في إجابتها على السؤال الأخير تكمن العديد من مخاطر الحرب.
ما وراء كورونا ، سيكون العنصر الحقيقي لتغيير اللعبة هو التكنولوجيا. إن الذكاء الاصطناعي والبيانات والروبوتات والزراعة الرأسية والطباعة ثلاثية الأبعاد والطاقة المتجددة لديها القدرة على إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي بأكمله والاتفاقيات التجارية وطرق سلاسل التوريد التي يقوم عليها نظامنا العالمي. هذا هو النظام العالمي الجديد الذي يجب أن نكون مستعدين له. ومع إضافة القوة الرقمية الصلبة إلى الجوانب العسكرية والمالية ، يمكن أن تبدأ الحروب وتنتهي لأسباب غير مرئية.
من الواضح أن هناك طريقًا لضبط النظام العالمي وإعادة توازنه وتجنب الحرب … إنه يأتي بمزيد من الشفافية ، وليس التعتيم ، وفضلاً عن التعاون والتواصل المستمر ، ليس فقط بين الولايات المتحدة والصين ، ولكن أيضاً بين جميع القوى الإقليمية. يمكن أن توفر قمة مجموعة العشرين هذا العام في المملكة العربية السعودية خط البداية لهذه العملية التي نحتاج إليها بشدة في اللحظة الراهنة .
الرابط الأصلى للمقال : https://www.arabnews.com/node/1663821
اضف تعليق