الرئيسية » تقارير ودراسات » ثالوث “النجف-واشنطن-طهران”.. إلى أين تتجه موازين القوى في العراق ؟
تقارير ودراسات رئيسى

ثالوث “النجف-واشنطن-طهران”.. إلى أين تتجه موازين القوى في العراق ؟

يبدو أن إيران نجحت في تحقيق انتصار سياسي داخل العراق والتسجيل بقوة في مرمى واشنطن منافسها التقليدي على النفوذ بالمنطقة الخضراء ,إذ  تكشف مسارات الأحداث أن كل المحاولات والجهود التي بذلت للتغلب على النزعات الطائفية  أضحت هباءً منثورا.

انتصار الدبلوماسية الإيرانية الناجم عن تحركات الجنرال قاسم سليماني المسئول عن إدارة الملف العراقي يدلل عليه عدة شواهد ولعل أبرزها الطريقة التي تم بها انتخاب  محمد الحلبوسى رئيساً للبرلمان العراقي حيث  نجحت طهران ورغم معارضة الولايات المتحدة، في أن يتولى أحد حلفائها المنصب المحسوب على السنة والذي كان يشكل صداعاً في رأس طهران , فقد تمكنت أذرع الملالى من تشتيت البيت السني  من خلال كتلة البناء بزعامة هادي العامري ونوري المالكي، والتي نجحت في تقسيم الكتل السنية واجتذاب العديد من النواب للانضمام  للمعسكر الإيراني ، وبناء على ذلك  تمكنت طهران في سابقة هي الأولى  من نوعها منذ عام 2003 تمثلت فى انتخاب البرلمان العراقي رئيسًا من بين أكثر من مرشح سني للمنصب، وبالتالي  تفتيت  أصوات النواب السنة، إذ إن العرف السياسي المعمول به في البلاد أن انتخاب رئيس مجلس النواب في الدورات السابقة للبرلمان كان يتم عن طريق تسمية مرشح وحيد عن السنة لتولي هذا المنصب من خلال مفاوضات تسبق جلسة التصويت على اختياره، لكن الخلافات بين الكتل السنية في البرلمان، أفضت  إلى ترشيح تسعة نواب لتولي المنصب, وفوز الحلبوسى الذي تربطه علاقة قوية مع قائد فيلق القدس قاسم سليماني, بالمنصب .

قبلة إيران الباردة على قبة برلمان العراق  تكشفت اتجاهاته من خلال أول مكالمة تليفونية آجراها مع نظيره الإيراني علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى والتي حرص خلالها على إظهار دعمه للنظام الإيراني عندما أكد ,حسب نص الاتصال الهاتفي , أن أعضاء البرلمان العراقي ومن خلفهم الشعب يقدون الدعم الإيراني اللامحدود للعراق في الماضي والحاضر ويعارضون بشدة ممارسة أي ضغوط  أو حظر اقتصادي على الجمهورية الإسلامية ويعتبرونه ظالماً حتى لو جاء من واشنطن وأن العراق سيدعم إيران ولو كان ضد الولايات المتحدة .

فروض الولاء التي قدمها رئيس البرلمان الحالي  ومحافظ الأنبار السابق تجلت فى أن أول منزل يزوره الحلبوسي على رأس وفد ضم نائبه حسن الكعبى عقب ترأسه للجلسة الأولى للبرلمان كانت بيت هادى العامري زعيم  تحالف الفتح . وعلى الرغم من أن بعض المراقبين عدوا الزيارة طبيعية وأنها نوع من العرفان بالجميل  فى ظل الدعم الذي حصده الحلبوسي من تحالف البناء للفوز برئاسة مجلس النواب غير أن جميع المعطيات تؤشر إلى أن المرحلة المقبلة سوف تشهد مزيداً من التقارب بين النخبة في بغداد وملالى طهران وأن العراق أضحى عضواً بارزاً بالمحور الإيراني.

الميول الإيرانية لدى الحلبوسي بدت ساطعة على رؤوس الأشهاد عبر عدم رفضه أو اعتراضه على  تصريحات النائب عن حزب الفضيلة عمار طعمة في الجلسة الأخيرة للبرلمان، والتي وصف فيها ربط العاصمة بغداد بخلفاء العهد العباسي في عهد كل من هارون الرشيد والمأمون بـ”وصمة العار” الأمر الذي لم يرفضه الحلبوسي، بل أكد لطعمة أن وجهة نظره مقبولة،   لذلك يبدو انتصار إيران في جولة رئيس البرلمان بمثابة متنفس سياسي جديد  إذ أن  رئيس البرلمان لديه صلاحية تأجيل الجلسات البرلمانية, كما يمكنها من خلاله تمرير التشريعات والقوانين التى تتوافق مع مصالحها ومن بينها مطالبة  القوات الأمريكية بمغادرة العراق بعد تراجع نفوذ داعش .

دلالات انحراف موازين القوى فى العراق نحو المحور الإيراني تتضح كذلك من خلال  مقدمات اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة والتي تتجه بوصلتها نحو اختيار مرشح موالى لنظام طهران لاسيما بعد أن نجحت من تقليص فرص حيدر العبادى  المدعوم من واشنطن فى الفوز بولاية ثانية بعد تمكنها من إحراجه عبر تأجيج الاحتجاجات فى البصرة وإظهار عجز حكومته في التعاطي معها الأمر الذى أفضى إلى رفض السيستاني المرجع الشيعي الأعلى ترشحه مجدداً ,فضلاً عن توحيد البيت الشيعي من خلال دفع الصدر إلى التراجع خطوة للوراء و التخلي عن العبادي  والانضمام لمعسكر العامري ولعل ما جرى بجلسة البرلمان العراقي يؤشر إلى ذلك , ففي أعقاب جلسة استثنائية طالبت القائمتان الرئيسيتان اللتان فازتا في الانتخابات التشريعية التي جرت في مايو الماضي، السبت باستقالة حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي. وقال المتحدث باسم تحالف “الفتح” بقيادة هادي العامري، النائب أحمد الأسدي أن “التقصير والفشل الواضح في أزمة البصرة كان بإجماع النواب ونطالب باستقالة رئيس الوزراء والوزراء فورا”.  مضيفاً “سنعمل سريعا خلال الساعات المقبلة لتشكيل الحكومة. نحن وسائرون على خط واحد لتشكيل الحكومة الجديدة ولبناء العراق، وواهم من يعتقد أننا مفترقون”.

الحضور الإيراني المكثف يكشفه أيضا ,محاولات الدفع بالسياسي المخضرم عادل عبد المهدي المنتمي  إلى المجلس الأعلى الإسلامي الموالي لإيران كمرشح تسوية لمنصب رئاسة وزراء العراق , ويبدو أن حظوظ عادل عبد المهدي ارتفعت، مع إعلان انسحاب العامري ، رئيس تحالف الفتح خلال مؤتمر صحافي الثلاثاء الماضي انسحابه من الترشح لرئاسة الحكومة العراقية.

الفتح الجناح السياسي للحشد الشعبي المقرب من طهران، يرى بأن السياسي عادل عبد المهدي، هو الأكثر قبولاً  لدى تحالف سائرون والفتح لرئاسة الوزراء ،لاسيما بعد أن تمكن “عبد المهدي” من عبور فيتو “السيستاني”  فضلاً عن علاقاته الواسعة مع القوى السنية والكردية , إلى جانب تمتعه في نفس الوقت بصلات سياسية مع المسئولين في الولايات المتحدة الأميركية، عندما كان وزيراً للنفط في الحكومة العراقية السابقة خاصة  زعامات الحزب الجمهوري الأميركي الحاكم.

الأجواء العراقية شبه مهيأة لتسمية عبد المهدى رئيساً للوزراء في ظل مساعي الصدر الرامية  إلى جعل قرار اختيار  رئيس الحكومة يخرج من النجف ووجود ضغوطات سياسية ودولية تمارس الآن على القوى السياسية ليكون رئيس مجلس الوزراء المقبل من خارج ائتلافي الفتح وسائرون وذلك على الرغم من بروز أسماء منافسة منها الوزير الأسبق علي عبدالأمير علاوي والسياسي ليث كبة ولكن حظوظ هؤلاء تبدو ضئيلة إذ أنهم لا يتمتعون بقاعدة سياسية، وليس لهم مقاعد في مجلس النواب  ومع ذلك فإن فرص نجاح حكومة عبد المهدى المقبلة ربما تكون بائسة جداً، إذ على الأرجح ,سيعتمد على قرارات السلطة التشريعية، الأقرب لطهران والتي لن تتوانى عن أخذ ضمانات حقيقية من رئيس الوزراء  المقبل نظير دعهما له, تسمح لها بالتحرك داخل العراق، بعد العقوبات الأميركية .

العقوبات الأمريكية على إيران تتناسب طرديا مع “ازدياد ثقلها في العراق”، ودورها في تشكيل الحكومة حيث يعتقد المراقبون أن إيران تسعى إلى رئة اقتصادية أكبر لها في العراق، لتعويض الحصار المفروض عليها نتيجة  العقوبات الأمريكية ، مستخدمة الانتخابات العراقية ورقة ضغط لإنعاش وضعها عبر حلفائها من المرشحين الفائزين .والذين قد تعمد من خلالهم إلى مزيد من الاستثمار واستغلال الاقتصاد العراقي إذ تعوّل إيران على تصدير بعض من النفط عن طريق العراق وبأعلام عراقية كما كان يفعل العراق في تسعينات القرن العشرين كوسيلة للالتفاف على الحظر ومع وجود حكومة موالية لها حتى وإن التزمت ظاهريا بالحظر الأميركي  فإنها بطبيعة الحال سوف تغض الطرف عن المعابر غير رسمية بين البلدين، والتى يمكن أن تحدث من خلالها عمليات تهريب كنوع من رد الجميل وهو ما طالب به حسن سالم، النائب عن كتلة الصادقون، والقيادي في مليشيا “عصائب أهل الحق”، حيث قال في بيان: إن “على الحكومة العراقية رد الجميل لإيران، والابتعاد عن الغزل مع من كان سبباً في تدمير العراق”، في إشارة إلى أمريكا.وفي السياق، ذاته هددت مليشيا “سيد الشهداء” بكسر الحصار المفروض على إيران، وقالت في بيان لها إنها “ترفض وبشدة فرض العقوبات على الجمهورية الإسلامية “إيران”، ونعد بالعمل على كسره بكل الطرق المتاحة”، وذكرت أن “الإيرانيين كانوا معنا في خندق واحد لقتال من يقاتلنا”.

المعطيات السياسية على الأرض تكشف أن الولايات المتحدة لا تمتلك نفوذاً حقيقياً و الانتشار العسكري الواسع لا يكفيها لمعادلة النفوذ السياسي مع طهران والتي امتد تواجدها العسكري من مدينة تلعفر شمالا، وحتى الفاو جنوبا, كما أن دور المبعوث الأميركي في بغداد بريت ماكغورك  يبدو ضئيلاً في التركيبة السياسية  إذ ما قورن بتحركات الجنرال الإيراني قاسم سليماني والذي تمكن من إحكام قبضته على مفاصل الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث  التشريعية والتنفيذية إلى جانب رئاسة الجمهورية . ولعل السبب فى ذلك  يكمن في كون مهمة الولايات المتحدة في العراق دفاعية ليس إلا، فعلى النقيض من أهداف إيران التوسعية، يُعد هدف الولايات المتحدة في العراق دفاعياً، إذ يتمثل في منع الهيمنة الإيرانية ومنح بغداد مساحة كافية لاستعادة قوتها.