الرئيسية » تقارير ودراسات » من طهران إلى أنقرة ..خرائط القوى ومعادلات الصراع فى الشرق الأوسط
تقارير ودراسات رئيسى

من طهران إلى أنقرة ..خرائط القوى ومعادلات الصراع فى الشرق الأوسط

لم يكن الشرق الأوسط يومًا ساحة راكدة، بل كان دومًا مرآةً لحركة التاريخ وجغرافيته المتقلبة. ومع حلول عام 2025، دخلت المنطقة فصلًا جديدًا من أطوار إعادة التشكل؛ فصلٌ يتقاطع فيه إرث الصراع مع ضرورات السياسة الجديدة، وتتفكك فيه تحالفات كانت بالأمس تبدو راسخةً كالجغرافيا نفسها. في هذا المشهد المفتوح على كل الاحتمالات، تتداعى محاور وتتشكل خرائط قوى جديدة، فيما يحاول اللاعبون الإقليميون رسم معالم واقع سياسي أكثر اتساقًا مع تحولات الداخل ومعادلات الخارج.

أولاً: سقوط المحور الإيراني وتآكل “محور المقاومة”
=============================

سقوط نظام بشار الأسد في دمشق نهاية عام 2024 كان الصدمة الكبرى التي قصمت ظهر “محور المقاومة” بقيادة إيران.

لقد مثل النظام السوري لعقود القاعدة الأمامية لطهران في المشرق العربي، وحلقة الربط بين طهران وحزب الله في لبنان. لكن بسقوط الأسد، تفككت منظومة كان يُظن لوهلة أنها محصنة بالحديد والنار. خسرت إيران ذراعها الاستراتيجية، وتقلص نفوذها إلى جيوب متفرقة في العراق ولبنان واليمن، دون قدرة حقيقية على المبادرة الإقليمية.

إيران، المثقلة بأزماتها الداخلية والاقتصادية، وجدت نفسها فجأة محاصرة بتآكل شبكة تحالفاتها، وخسارة نفوذها في الساحة السورية لصالح فاعلين جدد مدعومين إقليميًا.

ثانيًا: تركيا وصناعة محور سني جديد
========================

في الفراغ الذي خلفه الأسد، لم تتأخر تركيا عن الدخول إلى المشهد بقوة. عبر دعمها السياسي والعسكري لهيئة تحرير الشام وصعود الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، تحولت أنقرة إلى اللاعب الأكثر حضورًا على الأرض السورية.

أردوغان، الذي بنى مشروعه السياسي الداخلي على أسس قومية – إسلامية، وجد في سوريا فرصة لإعادة بناء محور سني يمتد من أنقرة إلى إدلب، مع انفتاح محسوب على العواصم الخليجية.

ورغم التحفظات الدولية، خاصة الإسرائيلية، حول تصاعد النفوذ التركي وهيمنة جماعات سنية متشددة في سوريا، فإن واشنطن بدت مستعدة لغض الطرف، طالما أن ذلك يضعف إيران، ويحجم التمدد الروسي.

ثالثًا: السعودية والخليج محاولات التموضع
=======================

على الجانب الآخر، تواصل السعودية رسم ملامح سياساتها الخارجية بمنهج احترازى محسوب. الرياض، التي تبنت خلال السنوات الماضية دبلوماسية أكثر مرونة، تحاول الآن الموازنة بين إعادة تموضعها إزاء إيران، والانخراط الحذر مع المحور التركي – السني الناشئ.

برزت في الشهور الأخيرة بوادر انفتاح سعودي على سوريا الجديدة عبر لقاءات علنية وسرية مع ممثلي الرئيس الشرع، في مشهد يعكس إدراك السعودية لضرورة احتواء النفوذ التركي وعدم ترك الساحة لقطب واحد.

في الوقت نفسه، لا تزال الإمارات تميل إلى سياسة أكثر تحفظًا، مفضلة الاستثمار في استقرار الوضع الداخلي وإعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية على حساب الانخراط السياسي العميق.

رابعًا: إسرائيل أمام معادلات جديدة
=====================

إسرائيل، التي لطالما بنت استراتيجياتها الأمنية على أساس احتواء إيران ومحور المقاومة، تجد نفسها اليوم أمام معادلة أكثر تعقيدًا. فصحيح أن سقوط الأسد أضعف إيران، لكنه أتى بجماعات سنية متشددة تحت المظلة التركية على مقربة من حدودها.

محاولات توسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية، خاصة السعودية، تصطدم اليوم بجدران من الشكوك والارتدادات الشعبية، لا سيما مع تجدد الصراع مع الفصائل الفلسطينية وتصاعد التوترات الإقليمية.

تل أبيب،تدرك أن استقرار النظام الإقليمي الجديد لن يكون مضمونًا، وأن هشاشة التحالفات قد تفرض عليها مراجعة أدواتها التقليدية في التعامل مع محيطها.

خامسًا: ملامح خريطة القوى الجديدة
=======================

بانهيار محور المقاومة التقليدي وصعود نفوذ تركيا، تتبلور أمامنا خريطة قوى إقليمية جديدة مكونة من:

محور تركي – سني ناشئ: مركزه أنقرة، وامتداداته عبر شمال سوريا وبعض قوى الإسلام السياسي.

محور خليجي مرن: بقيادة السعودية، مع تحالفات براغماتية تمتد بين تركيا وسوريا الجديدة، مع إبقاء خطوط تواصل مع واشنطن وتل أبيب.

تحالفات أمنية غير معلنة: بين إسرائيل وبعض دول الخليج، خاصة في مجال تبادل المعلومات ومواجهة التهديدات المشتركة.

بقايا محور إيراني متآكل: محصور في بعض الجيوب بالعراق ولبنان واليمن، لكنه فقد المبادرة الإقليمية.

سادسًا: تحديات واستحقاقات قادمة
=====================

مع هذه التحولات، تبرز تحديات مركزية ستحدد شكل الشرق الأوسط في السنوات المقبلة:

استقرار سوريا الجديدة: هل تنجح في بناء دولة مؤسسات أم ستظل ساحة صراع بين الفاعلين الإقليميين؟

الدور التركي: إلى أي مدى يمكن أن توازن تركيا بين طموحاتها القومية وتحالفاتها مع القوى الخليجية والأميركية؟

مستقبل التطبيع: هل تتمكن إسرائيل من ترجمة تحالفاتها مع العرب إلى شراكات مستدامة في ظل تزايد الغضب الشعبي؟

إيران والعودة إلى الداخل: هل تنكفئ إيران إلى ترتيب أوضاعها الداخلية أم تبحث عن مغامرات جديدة تعيد خلط الأوراق؟

 

الشرق الأوسط يدخل عام 2025 وهو محكوم بمعادلة “الفراغ والتوازن”؛ فراغ ناتج عن انهيار تحالفات قديمة، وتوازن هش قيد التشكل بين قوى صاعدة تبحث عن دور ومكان.

ليس الشرق الأوسط الجديد أكثر سلمًا بالضرورة، لكنه أكثر تعقيدًا وأقل قابلية للانفجار الفوري. وربما كان هذا أفضل ما يمكن تحقيقه الآن: إدارة التوتر بدلًا من الانجرار إلى هاوية صراع شامل.

ووسط هذه التحولات، يبدو أن من يستطيع قراءة اللحظة التاريخية جيدًا، والمزاوجة بين القوة والمرونة، هو من سيرسم حدود الشرق الأوسط القادم.