واضح من مقال الدكتور مصطفى علّوش (تهافت الفدراليّين – موقع أساس) أنّه لا يفهم الفارق بين معطى الايمان الديني، والمسألة الطائفيّة، لذلك تختلط عليه الأمور. هو يعطي أهميّة غير مستحقّة لحقيقة لا خلاف عليها هي أنّ الدين يمكن أن يكون مهمّا أو غير مهمّ عند أي فرد، ويمكن أيضا ألّا يكون مهمّا على الاطلاق. يسأل الدكتور علّوش: “لنأخذ مثلا مسألة الصلاة أوالصيام: على أيّ دين يحسب حينها من لا يمارسها؟”. جوابنا أنّ مسألة الايمان الديني “آخر همّنا”، وهي خارج الموضوع أصلا. ما ليس خارج الموضوع، بالمقابل، هي مسألة الهويّة الطائفيّة، والخيارات الناجمة عنها. للتذكير: تحمّس الدكتور علّوش بشبابه للزمر الفلسطينيّة المسلّحة، يوم تحمّس لها عشرات الآلاف من الشباب السنيّ، أو المسلم عموما. كم ماروني من بشرّي، بالمقابل، انتسب لها؟ كم كاثوليكي من المتن، أو سرياني من الأشرفيّة؟ لاحقا بمساره السياسي، انتسب الدكتور علّوش لتيّار المستقبل، السنّي بامتياز. كم منتسب للمستقبل هناك في دير القمر، أو بعقلين، أو النبطيّة؟ باختصار: سواء كان الدكتور علّوش مؤمنا أم غير مؤمن بالمفهوم الديني للكلمة (وهذا يعنيه وحده، ولا يعني أحدا سواه طبعا)، الحقيقة أنّ خياراته السياسيّة لم تخرج مرّة عن الخطّ السنّي العام بلبنان. مع ذلك، يقرّع الدكتور علّوش الفدراليّين لأنّهم – برأيه – يلجأون الى “القلعة المذهبيّة أو الطائفيّة”. بأيّ منطق؟
بالحقيقة، لو ابتعدنا عن السفسطائيّة والازدواجيّة الكامنة بالخطاب السياسي اللبناني، لوجدنا أنّ الانقسامات الكبرى بسياسىة البلد تحدّدت دوما على أساس الطوائف والجماعات. هل كان سقوط السلطة العثمانيّة وقدوم الفرنسيّين الينا نعمة أم نقمة؟ هل كان ينبغي أن نتحمّس للناصريّة، أو نرفضها؟ هل كان يجب أن نقبل بحريّة “العمل الفدائي” الفلسطيني بلبنان، أو نرفضه؟ هل النظام الايراني اليوم عدوّ أو صديق؟ هل سلاح حزب اللّه نعمة أو نقمة؟ هذه هي المسائل الأساسيّة التي تعنينا، والأجوبة عليها لطالما فرّقت الجماعات اللبنانيّة، وستفرّقها مجدّدا.
وهذا ليس عيبا، بالمناسبة. فكّر بالولايات المتحّدة: هل يعقل أن يتّفق الأميركيّون من خلفيّة أوروبيّة، مع بقايا الهنود الحمر، على قراءة واحدة لكريستوف كولومبس، واكتشاف العالم الجديد؟ أساسا: هل يتّفق الأميركيّون بالولايات الجنوبيّة مع الأميركيّين بالولايات الشماليّة على قراءة واحدة لابراهام لينكولن، والحرب الأهليّة الأميركيّة؟ الجواب أنّهم عموما لا يتفّقون، ولن يتّفقوا. والحال أنّ النظام الفدرالي المرن يسمح للأميركيّين بتنظيم خلافهم هذا على تاريخ بلادهم دون حرب، لأنّ حكومة ولاية ميناسوتا الشماليّة، مثلا، لا تستطيع أن تفرض على حكومة ولاية تينيسي الجنوبيّة أن تعلّم بمدارسها سرديّة تاريخيّة ليست سرديّتها. ولا نحن اللبنانيّين سنتّفق، بهذا المعنى، أو “ننصهر”. ليس هذا مهمّا، أو ضروريّا. وربّما ليس مطلوبا أصلا. المهمّ أن نقع على نظام يسمح لنا بادارة تجاورنا دون المزيد من شلّالات الدم.
من جهة ثانية، غير صحيح ما كتبه الدكتور علّوش لجهة أنّ الفدراليّين يتجاهلون مسألة الخلاف على السياسة الخارجيّة، وأنّ الفدراليّة لا تحلّها. سأضع هنا جانبا مسألة أنّ النظام المركزي الذي يتمسّك به الدكتور علّوش فشل بدل المرّة مئة مرّة بحلّ مشكلة عدم الاتّفاق على السياسة الخارجيّة، وأنّ الدكتور علّوش تاليا ليس بموقع يسمح له بانتقاد المشاريع الأخرى بخصوص هذه المسألة بالتحديد. بالحقيقة، الفدراليّون لا يتجاهلون اطلاقا مسألة السياسة الخارجيّة، وهي بصميم نقاشاتهم، وتفكيرهم. وبعكس الدكتور علّوش، يفهم الفدراليّون أنّ الخلاف على الخيارات الخارجيّة بلبنان جزء من صراع الهويّات الطائفيّة فيه؛ تاليا، لو نجد حلّا للأصل (كيفيّة ادارة العلاقة بين الطوائف)، نجد حلّا للفرع (السياسة الخارجيّة). فكّر مثلا بثنائيّة كردستان/بغداد بالعراق: الأكراد لا يريدون التورّط بمغامرات ايران بالمنطقة؛ بالمقابل، الحشد الشعبي – وقوى شيعيّة عراقيّة أخرى – لا يمانع. الترتيب الفدرالي الحالي بالعراق يسمح بأفضل ادارة ممكنة للخلاف لجهة أنّ أحدا لا يستطيع أن يلزم الأكراد، الأقوياء في منطقتهم، على الذهاب حيث لا يريدون. خيارات بغداد هي خياراتها وحدها، وليست خيارات المنطقة الكرديّة (ولا أقول هنا أنّ الوضع بالعراق مثالي؛ ولكنّ الوضع المثالي دوما نظري. الواقع الامبيرقي دائما معقدّ، لذلك يصعب على الرومنطيّقيّين المتطرّفين التعاطي معه، فيهربون منه الى المطلقات النظريّة).
وبلبنان، يفكّر الفدراليّون بترتيب مماثل، أي بفدراليّة موسّعة تسمح لكلّ مكوّن أن يعيش بمنطقة فيها مطار، ومرفأ، وحكومة محليّة، وقوى أمن محليّة أيضا، دون أن يفرض أي مكوّن خياراته على الآخرين، كما حدث سابقا يوم انحازت مكوّنات في لبنان الى السلاح الفلسطيني، وكما يحدث اليوم بقوّة العدد والسلاح الخميني الذي تنحاز له بوضوح غالبيّة المكوّن الشيعي. بالحقيقة، على افتراض أنّ هناك من حلّ ممكن لمسألة الخلاف على السياسة الخارجيّة، فهي عبر شكل من أشكال اعادة الترتيب الفدرالي الموسّع.
اضف تعليق