في الوقت الذي توشك فيه سوريا على الدخول في عامها الخامس عشر من الصراع، عادت محافظة السويداء لتتصدر واجهة الأحداث، ليس فقط كمشهد احتجاجات شعبية محلية، بل كساحة لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية.
انسحاب مفاجئ وتفكك السلطة المركزية
لأول مرة منذ سنوات، شهدت السويداء انسحاباً كاملاً لقوات الجيش السوري من مواقعها داخل المحافظة، وسط تفاهمات برعاية إقليمية معقدة شملت تركيا وقطر ودوراً غير مباشر للولايات المتحدة. هذا التطور يعكس مأزق السلطة المركزية في دمشق التي وجدت نفسها عاجزة عن احتواء انفجار السويداء الأخير، مع تصاعد الاشتباكات بين ميليشيات درزية محلية مدعومة بامتدادات إقليمية، ومجموعات عشائرية موالية للنظام.
ورغم أن الانسحاب قد يبدو “تنازلاً تكتيكياً” من دمشق لضمان تهدئة موضعية، إلا أن الحقيقة الأوسع تكشف انهياراً في قدرة النظام على إدارة ملف الجنوب، خاصة مع الانقسامات العميقة التي أفرزتها سنوات الحرب بين المكونات المحلية.
إسرائيل تدخل بثقل ناري
اللافت خلال هذا التصعيد لم يكن فقط غياب الدولة السورية، بل الحضور القوي لإسرائيل عبر سلسلة من الضربات الجوية غير المسبوقة استهدفت دمشق ومحيطها، تحت لافتة “حماية الدروز”.
لكن ما وراء التصريحات، كانت الضربات تستهدف تفكيك ما تبقى من بنية عسكرية للنظام في الجنوب، وإرسال رسالة مزدوجة إلى دمشق وطهران بأن التمدد العسكري في خاصرة الجولان لن يمر.
الرئيس المؤقت وتوظيف اللحظة
أحمد الشرع، الرئيس المؤقت بعد اتفاقات الهدنة الأخيرة، خرج بتصريحات بدا فيها “مدافعاً عن حقوق الدروز”، لكن المراقبين يدركون أن ما يحدث أعمق من مجرد حماية مكون طائفي.
الشرع يحاول استثمار لحظة الانسحاب العسكري لاستعادة شرعية داخلية ومخاطبة الدروز كحليف سياسي محتمل في معركة تثبيت سلطته الهشة، لكنه يواجه معضلة مضاعفة: إخفاقه في السيطرة على القرار العسكري من جهة، وخطورة الرهان على شرعنة التدخل الإسرائيلي من جهة أخرى.
معضلة الثقة: تهدئة موقتة أم بداية تدويل؟
القلق الإقليمي يتزايد من أن تتحول السويداء إلى بؤرة جديدة للتدويل، خاصة مع تكرار التدخلات الخارجية من تركيا إلى إسرائيل، مروراً بأطراف خليجية وأمريكية.
حتى الآن، لا ضمانات حقيقية لثبات الهدنة، ولا وضوح في الخطط طويلة الأجل. السويداء قد تدخل مرحلة “فراغ السيادة” حيث تحل المليشيات والمرجعيات المحلية محل الدولة، وهو ما ينذر بمزيد من الانقسام والاقتتال الأهلي المغذّى إقليمياً.
حسابات اقتصادية وسياسية متشابكة
التحركات في السويداء لا تنفصل عن المشهد الأوسع: النظام السوري يواجه أزمة مالية خانقة، العقوبات تخنق العاصمة، والحلفاء الروس والإيرانيون باتوا أقل حماسة للاستثمار في نزاع مفتوح على أكثر من جبهة.
في المقابل، إسرائيل تتبنى سياسة “الضربات الوقائية” كأداة ضغط لفرض هندسة جديدة للجنوب السوري تكون خالية من الوجود الإيراني، ولو على حساب استقرار مؤقت قد ينفجر لاحقاً.
نحو مشهد سوري أكثر تجزئة
إذا استمرت وتيرة الانسحابات، قد نشهد انتقال عدوى “الإدارة الذاتية” من الشرق السوري إلى الجنوب. لكنها إدارة مبنية على توازنات السلاح لا على مؤسسات الدولة، ما ينذر بمشهد سوري أكثر تجزئة، حيث تحتفظ دمشق باسم الدولة دون النفوذ الكامل على جغرافيا البلاد.
أحداث السويداء ليست مجرد انتفاضة محلية، بل جزء من معركة إعادة توزيع الحصص على الخريطة السورية. لحظة الهدنة الحالية قد لا تكون إلا استراحة محارب قبل صيف دموي جديد. الصراع السوري يدخل فصلاً جديداً حيث تتداخل خطوط الانقسام الطائفي مع مصالح الإقليم وقوى الخارج، والمحصلة حتى الآن: المزيد من الهشاشة، القليل من الاستقرار، وصراع طويل لم يصل بعد إلى خواتيمه.
اضف تعليق