لم يكن إعلان وقف إطلاق النار في غزة مساء الأمس مجرد خبرٍ عابرٍ في شريط الأحداث، بل أشبه بوقفة لالتقاط الأنفاس بعد شهورٍ من اللهب.
هدنةٌ وُلدت من رحم الإنهاك، ومن ضغطٍ إنساني تجاوز قدرة البشر على الاحتمال، لتصبح ـ كما وصفها أحد الوسطاء ـ “هدنة الضرورة” أكثر من كونها اتفاق سلام.
ورغم أن البنود التي حملها الاتفاق تبدو مألوفة — وقف شامل لإطلاق النار، انسحاب جزئي للقوات الإسرائيلية من بعض مناطق الشمال والوسط، فتح المعابر الإنسانية، تبادل الأسرى، وبدء مباحثات سياسية لاحقة — إلا أن ما يميز هذه الجولة ليس الورق، بل السياق.
فكل طرف وصل إلى نقطة العجز عن الذهاب أبعد في الحرب، دون أن يمتلك القوة للعودة عنها تمامًا.
القاهرة كانت حاضرة كالعادة، تمسك بخيوط النار وتنسج منها خيطًا من أمل هشّ.
مصر أدارت المفاوضات على الأرض، بوسائل دبلوماسية وأمنية دقيقة، بينما لعبت الدوحة دور “الموازن بين الخسارات” عبر ملفات الأسرى وضمانات الالتزام، وجاءت الأمم المتحدة لتراقب الممرات الإنسانية، وتضع ختم الشرعية الدولية على اتفاقٍ وُلِد من الرماد.
أحد الوسطاء وصف الجلسات بأنها “أطول لحظات الصمت بين خصمين”، إشارة إلى حجم التوتر والشك المتبادل بين الوفود، حيث كان كل طرف يفاوض على الحدود بين الحياة والموت، لا على الورق فحسب.
بالنسبة لإسرائيل، جاء القبول بالهدنة تحت وطأة الغضب الداخلي والتآكل السياسي والاقتصادي، بعد حربٍ طالت دون حسمٍ واضح.
أما الفصائل الفلسطينية، فترى في التهدئة فرصة لوقف نزيف المدنيين وإعادة تنظيم صفوفها، في وقتٍ تحوّل فيه القطاع إلى مشهدٍ أقرب إلى الرماد منه إلى المدينة.
منذ لحظة سريان الاتفاق، بدأت شاحنات المساعدات تتسلل إلى غزة عبر المعابر.
تُعيد الطواقم الطبية تشغيل المستشفيات بما تيسّر من أجهزة، وتخرج فرق الإنقاذ لانتشال ما تبقّى من الأرواح تحت الركام.
لكن المشهد الإنساني لا يزال قاتمًا: أحياء دُمّرت بالكامل، ومخيمات تكتظ بالنازحين، وطفولة تبحث عن ماءٍ آمن وسماءٍ لا تُقصف.
ورغم هشاشة الهدنة، يرى المراقبون أنها الأكثر واقعية من بين كل ما سبقها، لأنها نابعة من إرهاقٍ شامل، لا من توازن قوى.
فلا أحد قادر على الاستمرار في الحرب، ولا أحد مستعد بعدُ للاعتراف بالهزيمة.
ومع ذلك، تكمن خطورة الاتفاق في غياب الجهة الضامنة لتنفيذه، وفي انعدام الثقة الذي يجعل أي رصاصةٍ طائشة مرشّحة لإشعال النار من جديد.
لكن مجرد الوصول إلى هدنةٍ بعد كل هذا الدمار، يُعدّ اختراقًا رمزيًا، وإشارة إلى تحوّلٍ إقليمي أوسع تتقاطع فيه المصالح الدولية مع حدود الجغرافيا المنهكة.
الزمن وحده سيحكم إن كانت هذه هدنة لتضميد الجراح أم استراحة قبل جولة جديدة.
اضف تعليق