“ما أشبه الليلة بالبارحة ” , على طاولة أوروبية تتبعثر أوراق الفرقاء الليبيين مجدداً لكن هذه المرة بمذاق إيطالي في ظل غياب “رجل الشرق القوي” و أحد الأطراف الفاعلة بالمشهد, المشير “حفتر” ,فى محاولة أخرى من المفترض أن تخرج البلاد من حالة الفوضى وتمهد الطريق لإطلاق مسار انتخابي وسياسي.
“طاولة باليرمو” جمعت الشخصيات الرئيسية بالرحبة الليبية باستثناء المشير حفتر حيث حضر كل من رئيس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً فايز السراج ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة، يوازى مجلس الشيوخ في طرابلس، خالد المشري. فضلا عن ممثلين عن مصر وتشاد والنيجر وتونس والجزائر وأمريكا وفرنسا وروسيا واليونان .
“غياب رجل الشرق القوي” عن فعاليات المؤتمر على الرغم من تواجده في إيطاليا وعقده سلسلة اجتماعات هناك غير رسمية مع رؤساء دول المنطقة لمناقشة آخر التطورات الوطنية والدولية , تتعلق باعتراض المشير حفتر على وجود ممثلين عن دولة قطر وآخرين تابعين للجماعة الليبية المقاتلة المرتبطة بالقاعدة ، وأطراف أخرى توصف بغير المقبولة لدى المشير و يعارضهم بشدة على الصعيدين العسكري والأيديولوجي. ولأن حضوره يظل علامة مهمة على نجاح الاجتماع فقد سعت الخارجية الإيطالية ومعها أطراف روسية وأميركية على مدار أسابيع , إلى إقناع حفتر بحضور القمة, حيث إلتقاه وزير الخارجية ” انزو مورافو ” في بنغازي ، واستقبله فى روما رئيس الحكومة ” جيوسيبي كونتي ” وكان بادياً أن تحفظاته على الاجتماع قد تلاشت لكن سرعان ما لاحت الشكوك والاعتراضات مرة أخرى , على شكل المؤتمر والذي يرى حفتر أنه منحاز للمكون الإسلامي داخل وخارج ليبيا وخاصة الإخوان المسلمين المتموضعين في طرابلس.
قائمة المتغيبين عن القمة ضمت إلي جانب حفتر , المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والتي سبق وأكد رئيس الوزراء “كونتى ” حضورها علانية على توتير قبل نحو ثلاثة أسابيع, والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيث اكتفت فرنسا والتي يبدو حجم ونطاق مشاركتها في “باليرمو” ذو دلالات سياسية مهمة, بحضور الوزير جان إيف لودريان . لذا يفسر البعض انخفاض مستوى التمثيل الدولي بالمؤتمر إلى أن الاجتماع ولد من رغبة إيطاليا في إظهار قيادتها وموازنة نفوذ فرنسا المنافس بشأن ليبيا، وليس بسبب وجود تطورات على الأرض بررت ذلك.
المشاركة الروسية تؤشر إلى أن موسكو ربما تميل إلى الجانب الإيطالي لاسيما وأن وزير الخارجية الإيطالي قد أبدى في تصريحاته الأخيرة تركيزاً أوسع على الجانب الأمني وهو ما يهم مصر وروسيا , حيث تعمد الأخيرة إلى نشر قوات لها بالشرق و توسيع دائرة تواجدها في الشرق الأوسط ككل وفى شمال إفريقيا بوجه خاص , إذ ارتأت قيادة الكرملين أن نظام دولي جديد في طور التشكيل وأن لديها مسئولية في صياغة ملامحه وقد استطاع بوتين استيعاب تلك المتغيرات الاستراتيجية جيداً وأدرك أن الفرصة باتت مواتية للوصول إلى المياه الدافئة على المحيط الأطلسي وحجز مكان بالقرب من قواعد الناتو والحدّ من قدرة الولايات المتحدة على المناورة عسكرياً بل وسحب البساط أمام النفوذ الأمريكي بالمنطقة بشكل تدريجي.
“مؤتمر باليرمو” والذي جاء بعد نحو 5 أشهر من إطلاق خارطة باريس سعت من خلاله روما إلى القضاء على مخرجات لقاء فرنسا و التأكيد على أنها اللاعب الأبرز والأكثر تأثيراً بالساحة عبر محاولاتها حشد أكبر قدر ممكن من الدعم الدولي لها لتتولى قيادة المجتمع الدولي فيما يتعلق بالملف الليبي . وفد تمكنت من جذب الولايات المتحدة إلى صفها فيما يتعلق بتوجهاتها حول الأزمة وذلك خلال اللقاء الذي جمع بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي نهاية يوليو/تموز الماضي، والذي كان بمثابة تفويض من الجانب الأمريكي لإيطاليا فيما يتعلق بترتيب البيت الليبي لاسيما مع إعلان ترامب دعمه المسبق لتنظيم إيطاليا المؤتمر الذي ينظر إليه كبديل لاجتماع باريس.
لذلك اتسمت آليات التحرك الإيطالي بالتوسع أفقياً ورأسياً ,و امتدت لكافة جنبات البيت الليبي , فقد حاورت حلفيها فايز السراج وبذات الوقت مدت جسور التواصل مع حفتر , وأجرت اتصالات مع كل من عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي في طبرق، وخالد المشري رئيس مجلس الدولة في طرابلس ,وفضلا عن انفتاحها على الكتائب المسلحة ، وغسان سلامة المبعوث الأمم., ناهيك المحادثات مع قوى إقليمية ودولية لها باع مؤثر في الأزمة الليبية وذلك في مسعى لتوسيع نطاق التفاهمات بين الأطراف الفاعلة وتفادى نفس مصير مؤتمر باريس والذي كان أحد أهم ثغراته افتقاره للتأييد الدولي .
لكن ما فعلته إيطاليا بتحضيرات “باليرمو” لم يختلف عما دار فى كواليس الإليزيه , فقد انفتحت باريس على مختلف القوى السياسية والعسكرية بل وجمعتهم للمرة الأولى على الطاولة الفرنسية لكن مخرجات اللقاء والخارطة كانتا مجرد تعهدات دون إمضاءات , بمعنى أنها أخفقت في دفع الفرقاء الليبيين للالتزام بمخرجات القمة .
الإشكالية الحقيقة في مخرجات مؤتمر باليرمو والتي تقوم بالأساس على دعم خطة المبعوث الأممي غسان سلامة الرامية إلى عقد مؤتمر وطني جامع، في بداية 2019،ومن ثم إجراء الانتخابات في ربيع العام نفسه, تتمثل في أن توصياته ,ربما لن تزيد عن كونها تعديل تواريخ اتفاق باريس وذلك في ظل التباعد بين السراج ,حليف روما ,وخصومه السياسيين , فضلا عن عدم تجريم الكتائب المسلحة والذي يستحيل مع تحقيق استقرار أمنى في طرابلس وتأخر ترتيبات توحيد الجيش والتي تبدو ضعيفة لاسيما بعد أن اتضحت الصورة في القاهرة التي يبدو أنها وصلت إلى طريق مسدود .
المؤتمر الذي عقد عقب انقشاع حذر لغبار معارك طرابلس الأخيرة، قد يصل إلى نفس المحطة التي بلغها أسلافه , إذ يؤشر واقع التجربة الليبية والتي شهدت عقد مؤتمرات عدة في عواصم مختلفة أن التربة الداخلية لا تزال ساحتها غير مهيأة لاستقبال مبادرات جديدة وأن سبل حل الأزمة التي طال أمدها وزاد تعقيدها تتطلب عدم الخضوع لأي إملاءات خارجية والابتعاد عن تهميش بقية الأطراف التي تعتبر جزءا من المشهد والبحث عن آليات وضمانات واضحة لتنفيذ مخرجات أي مؤتمر وليس “باليرمو” فقط
اضف تعليق