تُنذر الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد قوات الحشد الشعبي العراقية – وهي قوة يبلغ قوامها نحو 240 ألف فرد، وتُقدّر ميزانيتها السنوية بحوالي 3.5 مليار دولار – بمرحلة جديدة أكثر توتراً في العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق، مع انعكاسات متزايدة على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية.
في مكالمة هاتفية جرت في أكتوبر/تشرين الأول، شدد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ضرورة “نزع سلاح الميليشيات المدعومة من إيران والتي تقوّض سيادة العراق”. وقد بدا لافتًا استخدام مصطلحي الميليشيات ونزع السلاح، إذ أوحى بأن واشنطن تستهدف بذلك فصائل داخل الحشد الشعبي. وكانت هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها مسؤول أمريكي كبير عبارة “نزع السلاح” صراحةً لوصف موقف واشنطن من مصير هذه الجماعات.
لكنّ بيان مكتب السوداني عن المكالمة تجنّب الإشارة إلى الفصائل المسلحة، واكتفى بالتأكيد على “ضرورة التشاور المسبق” ورفض “الإجراءات الأحادية الجانب” التي تمسّ العراق — في ما بدا ردًّا دبلوماسيًا على المطالب الأمريكية الأخيرة.
وهكذا، رغم وضوح مطلب واشنطن بنزع سلاح فصائل الحشد الشعبي، تبقى أسئلة جوهرية مطروحة: ما المقصود تحديدًا بـ“نزع السلاح”؟ كيف ومتى سيُنفذ؟ ما الفصائل المستهدفة؟ ومن الجهة التي ستتولى التنفيذ؟
يبدو أن الإدارة الأمريكية تسعى لاستغلال المناخ الإقليمي الذي تلا أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول لتكثيف الضغط على المحور الذي تقوده إيران، بما في ذلك داخل العراق. وسيكون الاختبار الحقيقي لهذه الاستراتيجية عند تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات، حين تتضح جدية واشنطن وحدود نفوذ الفصائل التي تصفها بـ“المدعومة من إيران”، والدور الذي سيسمح لها به داخل الهياكل المدنية والعسكرية العراقية المقبلة.
تصعيد أمريكي وقانون حشد مشدّد
شملت الإجراءات الأمريكية الأخيرة تصنيف وزارة الخارجية في سبتمبر/أيلول أربع فصائل شيعية مسلحة — حركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وحركة أنصار الله الأوفياء، وكتائب الإمام علي — كـ“منظمات إرهابية أجنبية”.
استندت الوزارة في تصنيفها إلى ارتباط هذه الجماعات بإيران وهجماتها في أنحاء العراق، بما في ذلك ضد السفارة الأمريكية في بغداد والقواعد التي تستضيف قوات أمريكية أو تابعة للتحالف الدولي. وأوضحت أن هذه الخطوة تأتي تنفيذًا لـ“مذكرة الأمن القومي” التي أصدرها ترامب في فبراير/شباط، والرامية إلى فرض “أقصى قدر من الضغط” على طهران وحلفائها.
وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على شركة المهندس العامة – وهي تكتل اقتصادي تابع للحشد الشعبي – وعلى شبكات مالية للحرس الثوري الإيراني، بتهمة “تحويل أموال من عقود حكومية عراقية” إلى الحشد الشعبي و“تسهيل غسيل أموال لصالح إيران”.
وردّت الحكومة العراقية واصفة الخطوة الأمريكية بأنها “مؤسفة للغاية” و“تتناقض مع روح الصداقة والاحترام المتبادل” بين البلدين.
سبق هذه الإجراءات حملة دبلوماسية مكثفة شنتها واشنطن لإقناع بغداد والقوى الشيعية بعدم تمرير قانون جديد لهيئة الحشد الشعبي، محذّرة من أنه “سيُرسّخ النفوذ الإيراني والجماعات المسلحة، ويُقوّض سيادة العراق”.
ويخشى منتقدو القانون من أنه يتجاوز قانون 2016، ويمنح الحشد الشعبي وضعًا مؤسسيًا دائمًا واستقلالية أوسع، ويسمح له بالتدخل في الشؤون السياسية تحت غطاء “حماية النظام الدستوري والديمقراطي”، بل ويمكّنه من التوسع في الاقتصاد والثقافة، في محاكاة واضحة لنموذج الحرس الثوري الإيراني.
وقد اقترحت الحكومة القانون في مارس/آذار، وجرى تقديمه إلى البرلمان، لكنه واجه ضغوطًا أمريكية شديدة حالت دون التصويت عليه، بعد فشل محاولات متكررة في يوليو وأغسطس لبلوغ النصاب القانوني. وعارضته الكتل الكردية والسنية بشدة.
تعكس هذه التطورات رغبة واشنطن في احتواء نفوذ الفصائل الموالية لإيران داخل العراق، رغم أن الحشد الشعبي كيان متنوع لا يتبنى كله سياسة طهران. إلا أن سيطرة فصائل بارزة مثل منظمة بدر وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق جعلته أداة رئيسية ضمن النفوذ الإيراني في بغداد.
ونظرًا لاندماج الحشد في البنية الأمنية والعسكرية الرسمية، فإن أي نهج أمريكي عدائي تجاهه قد يؤدي إلى تعقيد العلاقات الأمنية مع بغداد، وربما تقليص التعاون الاستخباراتي وتقييد برامج التدريب والدعم العملياتي المشترك في مكافحة الإرهاب.
سبق أن أثار وجود دبابات أبرامز أمريكية في أيدي فصائل الحشد عام 2017 جدلاً واسعًا في الكونغرس بعد استخدامها ضد البيشمركة الكردية. كما قد تتردد واشنطن مستقبلًا في التدخل لحماية العراق من ضربات إسرائيلية محتملة ضد مواقع الحشد الشعبي.
التداعيات السياسية والاقتصادية
من المرجح أن تترك الحملة الأمريكية ضد الحشد الشعبي أثرًا مباشرًا على مستقبل العملية السياسية في العراق.
فالأحزاب المتحالفة مع الحشد أصبحت منذ عام 2022 شريكًا رئيسيًا في الائتلاف الحاكم بعد انسحاب التيار الصدري. ورغم أن مقتدى الصدر فاز بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات 2021، فإن انسحابه من البرلمان مهّد الطريق أمام فصائل الحشد لتوسيع نفوذها في الحكومة الفيدرالية والإدارات الإقليمية.
استمرار غياب الصدر عن المشهد السياسي سيمنح هذه الجماعات فرصة أكبر لتمرير قانون الحشد الشعبي الجديد في البرلمان المقبل. ومع اقتراب انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، قد تسعى واشنطن إلى استغلال الزخم ضد النفوذ الإيراني لمنع الفصائل الموالية لطهران من لعب دور محوري في الحكومة القادمة.
لكن الانقسام العميق في السياسة العراقية قد يجعل تشكيل الحكومة أكثر تعقيدًا. وربما تدعم واشنطن مرشحًا لرئاسة الوزراء لا يرتبط بالحشد الشعبي، مع قبول محدود لدورهم في بعض الوزارات. وتاريخيًا، تطول عملية تشكيل الحكومات العراقية بسبب نظام المحاصصة الطائفية. فبعد انتخابات 2021، استغرق تشكيل الحكومة عامًا كاملًا، بينما لم تتشكل بعد حكومة جديدة في إقليم كردستان رغم مرور أشهر على الانتخابات البرلمانية هناك.
اقتصاديًا، تتغلغل قوات الحشد الشعبي في البنية الاقتصادية العراقية عبر شركاتها ومؤسساتها التابعة. وقد فرضت واشنطن عقوبات مالية على كيانات وأفراد مرتبطين بالحشد، تتهمهم بـ“غسل الأموال” و“تهريب النفط” و“الأنشطة المصرفية غير المشروعة”.
تتسبب هذه العقوبات في مخاطر امتثال قانوني للوزارات العراقية والشركات الحكومية، وتؤدي إلى بطء المدفوعات، وتعطيل سلاسل الإمداد، وصعوبات في الوصول إلى الدولار، مع زيادة متطلبات التدقيق المالي.
السيناريوهات المحتملة
يبقى السؤال: كيف ستتعامل الحكومة العراقية المقبلة مع هذه الأزمة؟
هل ستضغط واشنطن لدمج الحشد الشعبي كليًا ضمن الجيش العراقي النظامي تحت سلطة القائد العام للقوات المسلحة؟
أم ستسعى إلى تفكيكه تدريجيًا ودمج عناصره في قوات الأمن الأخرى، وتوجيه قياداته نحو العمل السياسي المدني؟
جميع هذه السيناريوهات تبدو بعيدة المنال دون تحوّل جذري في موازين القوى الإقليمية — مثل إضعاف النظام الإيراني أو انهياره.
أما على الجانب العراقي، فقد صرّح فالح الفياض، رئيس هيئة الحشد الشعبي، في أغسطس/آب بأن “حل الحشد الشعبي انتحار، ولا أتوقع أن يصدر عن المرجعية الدينية أو الدولة”.
وهكذا، فإن واشنطن أمام خيارين: إما التعامل بمرونة واقعية مع مسألة الحشد الشعبي، أو المضي في مسار تصادمي يُهدد بإطالة أمد التوتر مع بغداد.
وبناءً على مؤشرات الخطاب بين الطرفين، يبدو أن العامين المقبلين سيحملان قدرًا كبيرًا من الاضطرابات في العلاقات الأمريكية العراقية.
المصدر :محمد صالح – أتلانتك كانسل









اضف تعليق