الرئيسية » تقارير ودراسات » الانتخابات المبكرة .. تركيا من “الأتاتوركية” إلى “الأردوغانية”
تقارير ودراسات رئيسى

الانتخابات المبكرة .. تركيا من “الأتاتوركية” إلى “الأردوغانية”

حين يمضى الاقتصاد حاملاً معه أوزار السياسة وخطاياها يكون قد لاح آوان التغيير ..لكن يبدو المشهد مختلفاً في تركيا التي تستعد في الرابع والعشرين من يونيو الجاري لإجراء انتخابات مبكرة عدها المراقبون محاولة من الرئيس أوردغان  لإعادة ترتيب أوراقه المبعثرة وتخطي تخوم من رمال متحركة أوشكت على ابتلاع النمو الاقتصادي ونظامه السياسي .

فقد  دفعت الضغوط والقلق المتزايد من تدنى شعبية أوردغان إلى بحثه عن قارب إنقاذ يمنحه ستاراً شفافاٌ و شرعية جديدة يمكن الاستدلال عليها  من خلال اتجاه حزب العدالة والتنمية الإسلامي لخوض الانتخابات المرتقبة  بالتحالف مع نظيره اليميني ممثلاً في الحركة القومية .فبالرغم من اختلاف توجهات الحزبين غير أن الإجراء من شأنه حصول أوردغان على أصوات القوميين وبالتالي الاقتراب من عتبة الـ50% التى تمكنه من الفوز من الجولة الأولى .

نقاط التماس بين الحزبين  لم تفرضها فقط مقتضيات المرحلة بل يعود التقارب بينهما إلى الفترة التى تلت محاولة الانقلاب على أوردغان في صيف 20016 حيث امتدت أيادي القوميين لدعم حزب العدالة والتنمية من خلال تأييد التعديلات الدستورية والتصويت لصالحها  في إبريل من العام الماضي,فضلاً عن أن دعوة الحركة القومية لإجراء انتخابات مبكرة ليست الأولى من نوعها  حيث وقف القوميين ومنذ ثمانيات القرن الماضي وراء كل الانتخابات المبكرة ومن بينها استحقاق 2002 والذي فاز به العدالة والتنمية . وما قام به دولت بهتلشى هو إعادة توزيع للأدوار يين العدالة والتنمية والقوميين حتى لا تتصدر الرئاسة التركية أو حزب العدالة والتنمية المشهد باعتباره صاحب الدعوة لتبكير الانتخابات.

الانتخابات المزمعة تخدم القوميين أيضاً  بقيادة بهتشلي والذي وجد في التحالف مع أوردغان فرصة مناسبة يضمن بها الدخول للبرلمان وتخطى عقبة  الـ 10% وهى النسبة المقررة لتمثيل أي حزب فى البرلمان التركي  لاسيما بعد الانشقاقات التي طالت الحزب عقب تأييده للإصلاحات الدستورية التى دعا إليها أوردغان فى إبريل عام 2017 وأفضت إلى انفصال ميرال اكشنر وتأسيس الأخيرة لحزب جديد منافس استقطبت به قيادات وكوادر الحركة القومية .

القرار المباغت بإجراء الانتخابات  قبل عام ونصف من موعدها المفترض فى نوفمبر 2019كان تحركاً مدروساَ بدقة أمعن  خلاله فى احتساب الأرباح والخسائر ,حيث عمد أوردغان إلى استغلال تصاعد النزعة القومية عقب الانتصارات التي حققها الجيش بمنطقة عفرين بسوريا وطرد المسلحين الأكراد, ليحقق نصراً سياسيا موازيا .كما لجأ الرئيس التركي إلى استخدم عنصر المفاجأة ,أحد وسائله  للسيطرة على المعارضة الداخلية والخارجية ,بهدف إرباك الأحزاب الأخرى غير المؤهلة والمستعدة , في تكتيك يمكن رؤيته في إطار أنه نوع من الهروب الى الأمام وبالتالي قد يدفع نحو ترجيح كفة السلطة إلى جانبه.

حالة الاقتصاد كانت حاضرة  أيضاً فى ذهن أوردغان , الذي وصل لقمة السلطة فى عام 2002 محمولاً على أشرعة أزمة اقتصادية توصف بأنها الأسوأ في التاريخ التركي المعاصر وانهارت على إثرها  أحزاب اليمين-الوسط التي هيمنت على تركيا بين 1950 و2002 فقد  حاول استثمار  معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة في تركيا والتي بلغت  7,4 % في 2017 لاكتساب مزيد الدعم الشعبي غير أن التضخم المرتفع , الذي بلغ ذروته في تشرين الثاني/نوفمبر مسجّلاً نسبة 13 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ 14 عاماً وعجز الحساب الجاري الحالي إلى 4.7 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي”،فضلاً عن ضرورة إعادة هيكلة الديون في كبرى الشركات يمكن أن تنذر بعواقب وخيمة قد تجعل من  الانتخابات مغامرة غير محسوبة وشركاً نصبه أوردغان لنفسه ,فقد  لجأ  إلى وضع المسكنات على الجرح دون أن يداويه ليشفى  واعتبر تراجع قيمة الليرة مكيدة تحيكها القوى الخارجية لإنهاك شعبيته .مؤكداً أن الانتخابات المبكرة  سوف تشكل نقطة تحول إيجابية في مسار الاقتصاد، في حين أن الوقائع والمعطيات تشير إلى عكس ذلك تماماً

وتنبع أهمية الانتخابات المقبلة من كونها ستؤرخ لحقبة جديدة تمثل بداية تركيا “الأردوغانية ” يكون فيها للرئيس الكلمة الأخيرة كرئيس للدولة والحكومة والشرطة والجيش والحزب الحاكم ,فعقب إعلان نتائج الاقتراع  ستدخل الرئاسة الجديدة حيز التنفيذ بما يؤشر إلى  تحلل تركيا من ميراث أتاتورك وصياغة نظام يمنح أردوغان حال فوزه ولاية جديدة لمدة خمس سنوات، ليتمكن بذلك من العبور إلى العقد الثالث بنادي السلطة ، بعد أن شغل منصب رئيس الوزراء وبعدها الرئيس لمدة 15 عاما.

تبكير الانتخابات يعنى كذلك تحويل النسبة الضئيلة والتي تمت بها الموافقة على توسيع صلاحيات الرئاسة التنفيذية خلال استفتاء في إبريل 2017 إلى واقع ملموس .فبالرغم من التغطية الواسعة والمحاباة التي حصلت عليها حملة “نعم” في وسائل الإعلام لم تكن نتائج الاستفتاء مريضة إذ تم تمرير التعديلات بنسبة 51.4 %  فقط لكنها واقع الأمر أتاحت لـ”أوردغان” سلطات  أوسع، وبشكل رسمي. يكفي، مثالاً على ذلك، أن منصب رئيس الوزراء سوف يختفي، وأن الرئيس سيمتلك سيطرة أكبر على البرلمان والذي أضحى مجرد جسر تمر به السلطة التنفيذية دون مشقة خاصة مع إلغاء حق البرلمان استجواب الوزراء وحجب الثقة عنهم ؛ بل، وفي بعض الحالات، سيكون بوسعه  إصدار تشريع بموجب مرسوم رئاسي.

التربة السياسة والأمنية شبه مهيأة لاستقبال ” الدولة الأوردغانية ” وفقاً لعدة معطيات .. فللمرة السابعة تم تمديد قانون وحالة الطوارئ قبل يوم واحد  فقط من الإعلان عن إقامة انتخابات مبكرة وهو الأمر الذي قد يسمح  للرئيس التركي ليس بنشر القوات فقط أثناء عملية الاقتراع بل بسحق المعارضة أيضا وقد تجسد ذلك فى استخدام الشرطة للقانون بهدف قمع المعارضة والأحزاب المناهضة لأودغان  وتم بالفعل القبض على صلاح الدين ديميرتاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد. وحُكم بالسجن لمدة خمس سنوات  على أنيس بربر أوغلو، نائب بارز في «حزب الشعب الجمهوري بعد اتهامات بالضلوع بتسريب شريط فيديو إلى الصحيفة المعارضة “جمهوريت” يُزعم أنه يُظهر عناصر من المخابرات التركية ينقلون الأسلحة إلى سوريا.

وعلى الرغم من كثرة الانتقادات التى طالت سياسات أوردغان فى الآونة الأخيرة, تعمل الماكينة الإعلامية الضخمة الموالية له على تلميع صورته و ذكر تقرير محلي أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بات يسيطر على حوالي 90% من وسائل الإعلام التركية؛ بشكل مباشر أو غير مباشر مع بيع مجموعة “دوغان ميديا”​​، أكبر مجموعة إعلامية تركية، إلى شركة “ديميرين” القابضة المؤيدة للحكومة. حيث أعيد تشكيل الساحة الإعلامية  عقب محاولة الانقلاب بشكل يخدم طموحات الرئيس السياسية وتم إغلاق العديد من العشرات من وسائل الإعلام على خلفية اتهامات بدعم متورطين في محاولة الانقلاب أو الانفصاليين الأكراد ,أما ما تبقى من الصحف والتلفزيونات المستقلة، فقد سارع موالون لأردوغان وسياسات حكومته للاستحواذ عليها.

فوفقاً  لدراسة قامت بتحليل التغطية الإخبارية الحية في أكبر 17 شبكة في تركيا في آذار/مارس قبل الماضي  – وتحديداً فى الفترة التى سبقت استفتاء التعديلات الدستورية حصل حزب أردوغان على 470 ساعة من البث، و«حزب الشعب الجمهوري» على 45 ساعة، و«حزب الحركة القومية» على 15 ساعة، أمّا «حزب الشعوب الديمقراطي» فلم يحصل على أي دقيقة. الأمر الذى يؤشر إلى أن الآلة الإعلامية تعمل بأقصى طاقتها وبالتزامن  مع الماكينة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية بغية الترويج لنجاحات أوردغان وضمان فوز مريح للحزب عبر إقناع الرأى العام بضرورة ترحيل المشكلات إلى ما بعد الاستحقاق .

ويخوض غمار السباق الرئاسي في أنقرة حاليا خمسة مرشحين ينافسون أردوغان على منصب الرئيس إذ تضم القائمة محرم إنجيه رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني والذي أعلن أمام حشد ضم الآلاف من أنصار الحزب بعد أن قدمه لهم زعيم الحزب كمال كليتشدار أوغلو، “سأكون رئيسا للجميع، رئيسا غير متحيز. ستنتهي الأوقات المحبطة يوم 24 من يونيو”.ويعد أنجيه أقوى منافس لإردوغان حيث عُرف البرلماني العلماني بتوجيهه الانتقادات اللاذعة للرئيس كما يشكل حزبه المعارضة الأكبر لحزب إردوغان بالبرلمان التركي.

من الناحية السياسية، تعتبر تركيا دولة يمينية لذا فإن التحدي الأكبر لأوردغان يتمثل في المرأة الحديدية على حد وصف وسائل الإعلام ميرال أكشنار و التي كانت تشغل سابقاً منصب وزير الداخلية ونائب رئيس البرلمان، وانفصلت عن  حزب الحركة القومية عقب التعديلات الدستورية  من أجل  تأسيس حزب الخير كحركة وسطية تميل إلى اليمين. ومن خلال استهدافها للجناح الأيمن لأردوغان، تشكل تهديداً أكبر مما يمكن أن تشكله الأحزاب الأخرى وقد تتمكن في اجتذاب  عدد كبير منهم مما قد يصب في مصلحة إنجيه ويعمل على تفتيت قاعدة المؤيدين للرئيس الحالي. ويدرك أردوغان جيداً أنه كلما حظيت أكشنار بوقت أكثر لبناء قاعدتها، كلما زاد احتمال أن تكون قادرةً على إثبات نفسها كبديل يميني مذهل وأن تنتزع بعض ناخبي حزب العدالة والتنمية.

ومن خلف القضبان ينافس أيضا السياسي الكردي صلاح الدين ديميرتاش والذي يواجه تهماً تتعلق بحزب العمال الكردستاني المحظور إلا أنه لم يدان حتى الآن مما سمح له بالترشح في الانتخابات, علاوة على  لتيميل كرم الله أوغلو رئيس حزب السعادة ودوغو برينتشيك رئيس حزب الوطن اللذين تتضاءل  فرص تحقيقهم أي منافسة نظراً لعدم تمتع أحزابهم بالشعبية الكافية للتواجد بالبرلمان التركي.

وعلى الشاطئ الموازى  تبرز الانتخابات البرلمانية المقرر إجرائها ا في السابع من يونيو/حزيران الجاري بمشاركة 20 حزبًا و166 مرشحًا مستقلًّا وتتقدم هذه القائمة الأحزاب الأربعة الكبرى الممثلة الآن في البرلمان، وهي: حزب العدالة والتنمية الحاكم وأحزاب المعارضة: الشعب الجمهوري والحركة القومية والشعوب الديمقراطي، والتحالف الانتخابي بين حزبي الفضيلة والاتحاد الكبير، إضافة إلى 15 حزبًا صغيرًا آخر. ويحظى الاستحقاق البرلماني هذه الدورة بأهمية خاصة نظراً لصعوبة التنبؤ بنتائجه في إطار الحسابات بالغة التعقيد للنظام الانتخابي الذي يشترط على الأحزاب الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين لدخول البرلمان كذلك لما سيترتب عليه من تداعيات خطيرة أهمها وضع دستور جديد واستكمال علملية السلام مع الأكراد .

الرئيس التركي هندس النظام بشكل يحقق أهدافه تماما,ومع ذلك  يبدو العدالة والتنمية ,للمرة الأولى, غير واثق من قدرته على الفوز رغم رهانه على أن تأسيس الشرعية الجديدة، سوف ينطبع إيجابياً داخليا وخارجيا الامر الذى  يلقي بظلال كبيرة من الشك حول مدى قدرة أوردغان على تمرير طبخته السياسية وسيناريو بعد الانتخابات .