الرئيسية » تقارير ودراسات » القطب الشمالي بين ذوبان الجليد وتصاعد التوترات الجيوسياسية
تقارير ودراسات رئيسى

القطب الشمالي بين ذوبان الجليد وتصاعد التوترات الجيوسياسية

على مدى العقدين الماضيين على الأقل، ظل القطب الشمالي محط أنظار العالم، حيث أشارت التقارير إلى تراجع الغطاء الجليدي وإمكانية فتح ممرات ملاحية جديدة قد تعيد تشكيل خريطة التجارة العالمية. كان يُعتقد أن هذه الممرات ستختصر مسافات الشحن مقارنة بقناة السويس، مما يعزز من نفوذ روسيا كقوة عظمى. لكن هذه التوقعات لم تتحقق بعد، حيث لا تزال فترات فتح الممرات غير مؤكدة، مما يجعل التخطيط لاستخدامها تحديًا كبيرًا.

يتوقع الباحثون أنه بحلول عام 2030، قد تصبح هذه الممرات متاحة على مدار العام بسبب ذوبان الجليد المتسارع. ومع ذلك، وكما هو الحال مع معظم توقعات تغير المناخ، تظل هذه التكهنات غير مؤكدة. لكن ما لا شك فيه هو صعود روسيا كقوة مؤثرة في الشرق، وهو ما أعاد إشعال الجدل حول أهمية القطب الشمالي.

لم يعد تغير المناخ أو الطرق الملاحية هي المحرك الرئيسي لهذا الاهتمام المتجدد، بل الموقف الجديد الذي تتبناه روسيا منذ العقد الماضي. فبينما كان القطب الشمالي في السابق مسرحًا للتعاون الدولي، أشبه بمشروع فضائي تسعى فيه البشرية لاستكشاف موارد جديدة، تحول اليوم إلى ساحة للمنافسة وربما المواجهة.

تشترك خمس دول في الحدود مع القطب الشمالي: كندا والدنمارك والنرويج وروسيا والولايات المتحدة. وتعتبر الصين دولة “قريبة من القطب الشمالي”. وفي ظل التوقعات بفتح طرق تجارية جديدة، يتعزز التعاون والحوار بين الصين وروسيا لتعزيز سيطرتهما على المنطقة. ولا شك أن القطب الشمالي يمثل منطقة استراتيجية، حيث يمكن أن يوفر طريقًا مباشرًا إلى أوروبا والولايات المتحدة، حتى لو كان الوصول إليه غير مستقر بسبب الجليد.

لكن الاهتمام بالمنطقة لا يقتصر على طرق الشحن فحسب، بل يمتد إلى الموارد الطبيعية الهائلة التي تختزنها. يُقدّر أن القطب الشمالي يحتوي على 13% من احتياطيات النفط غير المكتشفة في العالم، و30% من احتياطيات الغاز الطبيعي. بالإضافة إلى ذلك، تزخر المنطقة بمعادن ثمينة مثل العناصر الأرضية النادرة والنيكل والبلاتين والذهب والألماس، وهي معادن حيوية لصناعات الدفاع والتكنولوجيا.

تحدد اتفاقية الأمم المتحدة حاليًا الحدود البحرية لكل دولة ساحلية ومناطقها الاقتصادية الخالصة. ومع ذلك، قدمت دول مثل روسيا وكندا مطالبات للأمم المتحدة لتوسيع سيطرتها على مناطق إضافية بناءً على أدلة جيولوجية.

وفقًا لتقرير صادر عام 2020 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أعادت روسيا تفعيل 50 موقعًا عسكريًا من الحقبة السوفيتية في القطب الشمالي، بما في ذلك 13 قاعدة جوية و10 محطات رادار و20 موقعًا حدوديًا. كما نشرت موسكو صواريخ هايبرسونيك جديدة ووحدات عسكرية متخصصة. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك روسيا أكبر أسطول في العالم من كاسحات الجليد، بما في ذلك سفن تعمل بالطاقة النووية.

ردًا على هذه التحركات، أعادت الولايات المتحدة في عام 2023 تسمية قاعدة “ثول” الجوية في غرينلاند إلى قاعدة “بيتوفيك” الفضائية، ووسعت عمليات أسطولها الثاني في شمال الأطلسي. كما عززت كندا والدنمارك والنرويج دفاعاتها في المنطقة، لكنها لا تزال بعيدة عن مستوى الترسانة العسكرية الروسية.

من جانبها، تعزز الصين وجودها في القطب الشمالي من خلال كاسحات الجليد ومحطات البحث العلمي والشراكات الاقتصادية مع روسيا. لكن هذا الوجود، كما هو الحال في الفضاء، قد يكون ذا طبيعة مزدوجة، حيث يمكن تحويل البنية التحتية المدنية إلى أغراض عسكرية إذا لزم الأمر.

في هذا السياق، ليس من المستغرب أن نسمع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يتحدث عن شراء غرينلاند. ففي مواجهة تحالف روسيا والصين، تفتقر أوروبا إلى القوة الكافية لموازنة النفوذ المتصاعد لهاتين القوتين. فاتفاقية بين بكين وموسكو قد تمنحهما السيطرة على مستقبل المنطقة بأكملها. وفي حين تحاول الدنمارك وأوروبا تحديد كيفية الرد على خطط ترامب، فإنهم يدركون أنهم غير قادرين على حماية غرينلاند من طموحات روسيا والصين.

تعتمد الدنمارك والنرويج بشكل كبير على حلف الناتو للحماية العسكرية في القطب الشمالي. ومع ذلك، فإن إنفاقهما على الدفاع لا يتجاوز 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل من هدف الناتو البالغ 2%، ناهيك عن هدف ترامب الطموح البالغ 5%. وهذا يفتح الباب أمام إستراتيجية جديدة للولايات المتحدة في المنطقة.

من الناحية العسكرية، تمتلك الولايات المتحدة ميزة تاريخية تتمثل في أن أراضيها لم تتعرض للغزو أبدًا. وهذا ما سمح لها بدعم حلفائها في أوروبا خلال الحربين العالميتين وخوض حروب أخرى دون أن تكون هي نفسها هدفًا. لكن وجود عسكري متزايد لروسيا والصين في القطب الشمالي قد يهدد هذه الميزة في حالة نشوب حرب شاملة. وينطبق نفس المنطق على قناة بنما، مما يجعل واشنطن جادة للغاية في التعامل مع هذه القضايا، سواء مع أعدائها أو حلفائها.

في نهاية الحرب الباردة، كانت كاسحات الجليد الروسية والأمريكية ترمز إلى تعاون جديد بين البلدين. حتى إنهما تعاونتا في عملية إنقاذ ثلاث حيتان رمادية كانتا محاصرتين في الجليد، وهي الحادثة التي ألهمت فيلمًا سينمائيًا. لكن مع عودة المنافسة والمواجهة على الساحة العالمية، يعود القطب الشمالي ليصبح بؤرة للتوتر. وسيستمر هذا الوضع سواء ذاب الجليد بما يكفي لفتح طرق تجارية أم لا. ولن يعود التعاون في القطب الشمالي، أو حتى في الفضاء، إلا بعد أن يتم تحديد النظام العالمي الجديد

المصدر : Arctic to become focal point for geopolitical tensions | Arab News