استدارة عميقة بالسياسة الخارجية الهندية كشفت عنها الصفقة التي وقعت قبل نحو أسبوعين خلال القمة التي جمعت ” بوتين ” ورئيس الوزراء الهندي”ناريندرا مودي ” في 4 و5 أكتوبر 2018،والتي شهدت توقيع نحو 20 اتفاقاً , احتلت صدارتها القطاعات العسكرية والدفاعية , فعلى الرغم من تحفظ واشنطن على تقارب نيودلهي حليفها الدائم في جنوب آسيا مع الدب الروسي لاسيما بالمجال العسكري لكن يبدو “ناريندرا مودي” مصراً على تنفيذ ما أعلنه من قبل بالتوجه نحو الشرق وتعزيز موارد السلاح من خلال شراء منظومة الدفاع الروسية “إس 40″.
أصداء شراء الهند المنظومة الروسية أثارت حفيظة واشنطن وذلك على الرغم من أن جميع البيانات تكشف أن موسكو هي المصدر الأول لسلاح نيودلهي منذ ستينيات القرن الماضي، وأنه خلال الفترة من أعوام 2012 و2016 شكلت الأسلحة الروسية نحو 68% من واردات الهند من أنظمة الدفاع حيث ألمحت الولايات المتحدة لإمكانية أن يؤدي قرار ” مودى” بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس – 400″، إلى تجميد واشنطن بيع طائرات بدون طيار من طراز “بريداتور” لنيودلهي وإلى احتمال ترددها بشأن تزويد الأخيرة بالتكنولوجيا العسكرية الأمريكية .
محفزات توجه الهند لإتمام الصفقة مع روسيا ,ترتبط بالتحالف الوثيق بين واشنطن و نيودلهي وما ترتب عليه من اتفاق الجانبين على تنفيذ برنامج استمر على مدى العقديين الماضيين لاستبدال منظومة الأسلحة الروسية لدى الهند بنظيرتها الأميركية وهو الأمر الذي انعكس على ورادات الهند من أنظمة الدفاع الأميركية والتي ارتفعت بنسبة 557% بالمقارنة بين الفترتين 2008 – 2012 و2013 لكن بمرور الوقت وجدت الهند صعوبات فى عملية الإحلال العسكري لاسيما مع ارتفاع تكلفته مالياً , وعدم قدرتها على استبدال كافة المنظومة الروسية فضلاً عما يقتضيه ذلك من تدريبات مكثفة لقواتها مما جعلها تضع التعاون مع موسكو ,مجدداً , على رأس أولويتها وذلك في إطار حرصها على تنويع مصادر السلاح وتحقيق توازن بعلاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة وروسيا هذا إلى جانب انخفاض تكلفة المنظومات الدفاعية الروسية مقارنة بالأميركية .
نزعات ” مودى ” للاستدارة شرقاً تعد أحد أسباب التقارب العسكري مع روسيا , حيث تسعى الهند لفك ارتباطها نوعياً بالولايات المتحدة والغرب فقد كان أحد أول قرارات مودي في السياسة الخارجية هو إعادة تسمية سياسة الهند القائمة من “التطلع شرقًا” إلى “التفاعل شرقًا وذلك من خلال التركيز على دول آسيا وتحويل مسارات الاهتمام والتي استندت فى السابق إلى التعاون في المجالات السياسة اقتصادية إلى تغذية العلاقات السياسية والأمنية ,ففي نوفمبر 2015, وقّعت الهند وسنغافورة على اتفاقية تعاون دفاعي معزز, والتي شملت إقامة حوار ثنائي سنوي بين وزراء الدفاع. أمدت الهند فيتنام بزوارق دورية, وخط ائتمان بقيمة 500 مليون دولار أمريكي للإنفاق الدفاعي, وتعاون في مجال مكافحة القرصنة وتدريب للغواصات والطائرات القتالية. كما كشف رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” خلال كلمته في “حوار شينجريلا” بسنغافورة في يونيو 2018 اتباع الهند سياسة “العمل شرقًا وذلك من خلال طرح عدد من المبادرات الأمنية والاستراتيجيه مع دول القارة الآسيوية، والقيام بدور حلقة الوصل بين الأقاليم المطلة على المحيطين الهندي والهادي. كما تعهد في هذا المنتدى الذي ضم وزراء الدفاع من الدول الغربية والآسيوية بالتصدي لمحاولات إعاقة حرية الملاحة أو الهيمنة على الممرات البحرية الاستراتيجيه.
مواجهة التهديدات الإقليمية وخاصة النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة شكل دافعاً محورياً لاقتناء الهند “إس 400” إذ تعتزم نشر المنظومة الروسية قبالة نقاطها الحدودية مع الصين وباكستان فى محاولة للتصدي للتطورات المتزايدة في قدراتهما الصاروخية خاصة فيما يتعلق بالقوات الجوية الصينية والتطور في الطائرات غير المأهولة لدى بكين، بالإضافة إلى دخول مقاتلات الجيل الخامس الصينية “جي – 20” للخدمة في فبراير 2018 والتي قد تشكل تهديداً للأمن القومي الهندي .حيث ترى نيودلهي أن مشروع الحزام والطريق الذي تنفذه الصين ليس سوى محاولة لتطويق حدودها البرية والبحرية وتعزيز التواجد العسكري الصيني بالمحيط الهندي وتستدل على ذلك من خلال قيام بكين بتطوير ميناء “جوادار” في باكستان وحصول شركة صينية على 70% من أسهم ميناء “هامبانتوتا” في سيريلانكا . فقد دفعت التوترات بين الهند والصين إلى سعى الأولى لمواجهة التقارب بين بكين وموسكو من خلال شراء المنظومة الصاروخية الروسية وتعزيز أجندة الترابط الدفاعي بينهما .
لذلك تبدو التحذيرات الأميركية بأن شراء نيودلهي “إس – 400” يهدد فرص العمل المشترك بين الولايات المتحدة والهند , غير فعالة فضلاً عن أن العقوبات ضد نيودلهي غير مرجحة في المرحلة الحالية ، فى ظل تحرك الأولى بكل ثقلها لتعزيز العلاقات الاقتصادية والدفاعية في مواجهة تنامي نفوذ الصين وأيضا في رسالة مضمونة الوصول إلى الجارة باكستان, فقد اتفق البلدان في سبتمبر الماضي ,على إجراء مناورات عسكرية مشتركة قبالة ساحل الهند الشرقي في 2019، في نموذج آخر للتعاون المتزايد في مجال الدفاع.. وكانت الولايات المتحدة قامت مؤخراً بإعادة تسمية قيادتها في المحيط الهادي التي يوجد مقرها في هاواي بـ”قيادة المحيط الهادي الأميركية – الهندية”، وفي 2016 سمّت الهندَ شريكاً رئيسياً في الدفاع. واتفق البلدان مبدئياً على المضي قدماً في اتفاق بشأن تقاسم قواعدهما العسكرية من أجل إعادة التزود بالوقود أو إصلاح الطائرات الحربية أو السفن البحرية. وفي يوليو الماضي، قامت واشنطن أيضاً بتخفيف القيود على بيع معدات دفاع عالية التكنولوجيا ومواد أخرى للهند فالولايات المتحدة لا تريد خسارة المواقع في حرب النفوذ ضد بكين في المنطقة، وترى في الهند “وكيلًا قويًا” يمكنه أن يساعدها على زيادة نفوذها العسكري والسياسي على حساب الصين من المحيط الهندي وحتى الهادئ.
جنوح نيودلهي نحو اقتناء المنظومة الصاروخية , لا ينفصل عن سباق التسلح مع الجارة النووية باكستان والتي أعربت عن شعورها بالقلق من الصفقة ، نظراً لإضرارها بالتوازن والاستقرار الإقليمي حيث أعلنت إسلام آباد معارضتها صفقة منظومات الدفاع الجوي “S-400” الروسية، التي وقعتها موسكو ونيودلهي في وقت سابق من الشهر الجاري.وقال محمد فيصل المتحدث باسم الخارجية الباكستانية في مؤتمر صحفي، “إننا نعارض أيا من أنواع سباق التسلح في جنوب آسيا، وكنا وما زلنا نقترح تدابير لتعزيز ضبط النفس في كل من الدومينو النووي والتقليدي”.وأضاف “فيصل” أنه ينبغي للدول التي تقدم الأسلحة إلى الهند، ضمان ألا تعيق مساعدتها توازن القوى في المنطقة.
وتشهد العلاقات الباكستانية الهندية توترا تصاعد مؤخرا، بعد إلغاء الهند محادثات كانت مقررة بينهما خلال اجتماعات الدورة الـ 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وتتنازع الهند وباكستان على إقليم كشمير الذي تقطن فيه أغلبية مسلمة، وخاض بسببه البلدان ثلاث حروب في أعوام 1948 و1965 و1971، ما أسفر عن مقتل نحو 70 ألف شخص من الطرفين. ومنذ 1989، قتل أكثر من 100 ألف كشميري، وتعرضت أكثر من 10 آلاف امرأة للاغتصاب في الشطر الخاضع للهند من الإقليم، بحسب جهات حقوقية، مع استمرار أعمال مسلحة من قبل جماعات إسلامية ووطنية ترفض سيطرة الهند على الإقليم.
ولقد أسفرت تلك التوترات عن قيام الهند بزيادة إنفاقها العسكري بصورة ملحوظة ليصل إلى 52.2 مليار دولار لتحتل المركز الثالث بين دول القارة الآسيوية في الإنفاق العسكري بعد الصين وروسيا وفقًا لبيانات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجيه في لندن في فبراير 2018، وقامت نيودلهي كذلك بزيادة عدد القوات الهندية ليصل إلى 1.39 مليون جندي، وحوالي 1.115 مليون جندي في الاحتياط.
لاشك أن إصرار الهند على اقتناء منظومة الدفاع الروسية رغم تعدد مسبباته , يأتي في إطار سعى نيودلهي للمنافسة على دور محوري ليس في جنوب آسيا لكن أيضاً على الصعيد الدولي عبر انتهاج أيدلوجيات متوازنة مع جميع القوى العالمية يراها البعض انعطافاَ حاداَ بسياسات “مودى” .
اضف تعليق