عبر براجماتية متحررة من كافة القيود الأيديولوجية تحاصر شرنقة الملالي مجددا القارة السمراء وبالرغم من أن أفريقيا شبه مشبعة بشعارات طهران الرنانة غير أن عودة العقوبات الأمريكية قد تطلق العنان للتمدد الايرانى فى الأرض البكر وقد سبق واستخدمتها كواجهة خلفية للتحرك الدبلوماسي والاقتصادي في مواجهة الحصار الدولي والعزلة الإقليمية، وضلع أساسي في “الهلال الشيعي”
في فترة ما قبل الاتفاق النووي أسهم تطور العلاقات الاقتصادية فى التخفيف من وطأة الحصار وساعد على فتح أسواق جديدة للاستثمار أمام القطاع الخاص الإيراني المحاصر وتبنت طهران سياسة النفط مقابل اليورانيوم و زادت صادرات النفط الإيراني لأفريقيا من 1.3 مليار دولار عام 2003، إلى 3.6 مليارات دولار عام 2012. إذ أن توجه إيران نحو إفريقيا كان إحدى محاولاتها لفك الحصار العالمي عليها، وكانت إفريقيا الفضاء الأنسب لذلك، باعتبارها ساحة الصراع الثانية عالميًّا والمورد الطبيعي الأكبر للعالم، والعلاقات الإيرانية الإفريقية تعد من العلاقات التى شهدت توسعاً كبيراً خاصة خلال العقدين الماضيين.
وتشير بعض الإحصائيات إلى أن العلاقات التجارية المتبادلة بين إيران وإفريقيا وصلت لأكثر من مليار دولار، الرقم الذي قد لا يبدو ضخمًا هو بشكل ما باب مهم من أبواب الدخول الإيراني لتحقيق أهداف أخرى قد لا تتحقق إلا عن طريق الاستثمار والشراكة التجارية، حيث اتجهت إيران لتعاون مفتوح يضمن ترابطًا اقتصاديًّا في القارة بأكثر مما تفعل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى.
وفى جنوب أفريقيا تكفي الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف , فى الـ13 من يونيو الجاري , لجنوب أفريقيا والتقى خلالها ، نظيرته الجنوب افريقية ‘لينديوي سيسيولو’ والتى أكدت دعم بلادها للاتفاق النووي لتؤشر على عمق التوغل الإيراني هناك , كذلك إعلان مدير عام قسم شؤون أفريقيا في مؤسسة التنمية التجارية الإيرانية، فرزاد بيلتن، عن رصد أهداف استثمارية لبلوغ مستوى المليار دولار بحلول العام 2020 في مجال التبادل التجاري بين إيران وجنوب أفريقيا , فضلاً عن الإشارة للتعاون الوثيق بين إيران وبين عملاق الاتصالات هناك (MTN) حيث تسيطر المجموعة الجنوب أفريقية الآن على 45% من سوق الاتصالات في الجمهورية الإسلامية بعد أن أعطتها طهران ترخيص العمل .
أما فى منطقة القرن الأفريقي، فقد أقامت علاقات اقتصادية تقوم على استخدام البحرية الإيرانية أحد موانئ تلك الدول كمحطة عبور بين قناة السويس والبحر العربي، وليس سراً أن الشركات الإيرانية غالبها مملوكة من قبل جهات إيرانية رسمية وشراء شركات التنقيب عن الذهب والبترول والغاز في دول شرق أفريقيا للتحايل على العقوبات الدولية فيما يخص المعادن ذات الاستخدام المزدوج وعلى الهامش الشرقي من الاتحاد الأوروبي. وقبل ثلاث سنوات استغلت إيران الرفع الجزئي للعقوبات الدولية في أعقاب الاتفاق النووي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من أجل تدشين مرحلة هجوم دبلوماسي قوي في القارة السمراء، حيث صرح نائب وزير الخارجية حسين أمير عبدالله يان عام 2015 للإذاعة المركزية الإيرانية بأن إيران وأفريقيا لديهما علاقات استراتيجيه، ودعا جميع الفاعلين الإيرانيين في الاقتصاد والتجارة والعلوم والثقافة إلى “اقتناص الفرص التي تتيحها أفريقيا”.
وفقا للمعطيات السابقة من المتوقع أن تعمد إيران خلال الفترة المقبلة إلى إجراء مزيد من المشاركات الاقتصادية مع الدول الإفريقية، وفتح مشاريع جديدة في مجالات إنتاج السيارات وقطاعات الزراعة والمياه والصحة، أيضا مشاريع في مجال الطاقة ومحاولة تسويق تجربتها في برنامجها النووي لإقامة محطات لتوليد الكهرباء.
الاختراق الإيراني للعمق الأفريقي لا تقتصر دوافعه على البعد الاقتصادي والالتفاف على العقوبات, حيث تعود إرهاصاته إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي وتحديدا عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية حيث اتجهت أنظار قادة الدول الإسلامية إلى القارة ووضع قادة النظام ابتداءً من هاشمي رافسنجاني استراتيجيه رخوة تضمن لهم التمدد وفق أسس ومعايير جديدة . فمنذ أول زيارة قام بها رافسنجانى فى عام 1991 وصولا إلى عهد روحانى يغلف القادة الإيرانيون رغبتهم فى التقارب الأفريقي بنفس المظلات الدعائية للثورة وهى ضرورة التكاتف لهزيمة الهيمنة الغربية وتحرير الشعوب التى تعانى من الهيمنة وتأسيس جبهة موحدة تكون إيران طرفاً أساسياً فيها لمواجهة نفوذ الدول.
الشحنة الموجهة لقلب أفريقيا ، يدلل عليها بالصعيد الرئاسي زيارة أخرى لرافسنجاني عام 1996، وجولات “محمد خاتمي ” بعدد من الدول الإفريقية، ومن بعده أحمدي نجاد الذي قام بأكثر من ست جولات لدول غرب أفريقيا . وفيما يتعلق بالمستوى الدبلوماسي تمتلك إيران سفارات في أكثر من 30 دولة. وعقدت العديد من القمم الأفريقية الإيرانية المشتركة، كما تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وقام وزير الخارجية الإيراني ” محمد جواد ظريف بزيارات عدة لدول شرق أفريقيا” في العام 2014، و دول شمال أفريقيا في العام 2015، ثم جولة في دول غرب أفريقيا في العام 2016.
الأبواب الخلفية التي يهواها نظام الملالي , دفعته لتجاوز السبل الدبلوماسية والعمل عبر تنظيمات سرية تشكل نقاط ولاء له في القلب الأفريقي. فعملت طهران على فتح قنوات غير رسمية مع حركات المعارضة بهدف توظيفها عندما تقتضى الضرورة فى مراحل لاحقة و كشف تقرير ميداني أعده مركز بحوث تسليح الصراع بين عامى (2006 و2012) عن أنه من بين 14 حالة كشف فيها عن وجود أسلحة إيرانية هناك فقط 4 حالات كانت مع الحكومات والعشر الباقية مع جماعات غير نظامية، التحركات المشبوهة والمتكررة للمخابرات الإيرانية تمثلت فى دعم الانفصاليين في منطقة “كاسامانس” بالسنغال ومتمردي ساحل العاج، وجامبيا، وحركة إبراهيم الزكزاكي في نيجيريا. الأذرع الطويلة لإيران تسببت بقطع حكومات هذه الدول علاقاتها بها. فقطعت كل من السنغال وغامبيا علاقتهما بإيران في العام 2011، وقبلها في العام 2010 انتهجت نيجيريا نفس المسار عقب اكتشاف شحنة أسلحة قادمة من إيران في طريقها إلى غامبيا وتورط الحرس الثوري بتهريب كميات من الكوكايين داخل حاوية لقطع غيار السيارات وتردد حينها أن علي أكبر طبطبائي قائد فيلق القدس فى أفريقيا، كان قد لجأ إلى السفارة الإيرانية في لاجوس، واستطاع الخروج من نيجيريا على متن طائرة وزير الخارجية الإيراني أثناء زيارته المفاجأة لها. وكان هدف إيران من ذلك إنشاء نظير لحزب الله اللبناني في نيجيريا، والدفع في اتجاه إنشاء حزب شيعي يمكن أن يصل غدا إلى السلطة. غير أن السلطات النيجيرية تنبهت إلى هذا المخطط السري عام 2013، عندما أعلنت المخابرات النيجيرية عن تفكيك خلية عسكرية سرية مرتبطة بعناصر إيرانية كانت تعد لضرب أهداف غربية في البلاد.
تلبست إيران عباءة الدين فى “الحزام الإسلامي غربي أفريقيا”( المنطقة الجغرافية التي تمتد من موريتانيا غرباً حتى النيجر شرقاً، ومن موريتانيا شمالاً حتى ليبيريا جنوباً ومنها حتى نيجيريا) ونجحت بالتموضع فى ظل وجود غالبية مسلمة فى تلك الدول. التغلغل السرطاني أخذ مساراً تدريجاً انعكس بادئ الأمر فى مساعدة المسلمين السنة بترميم مساجدهم ومنازلهم من دون أي دعوات مذهبية , فلم تبن مساجد وحسينيات ، لكنها لجأت لتقديم تذاكر العمرة ونشر الكتيبات عن الثورة الإسلامية . اللبنة الأولى للتمدّد الشيعي بدأت مع الهجرات اللبنانية فى الثمانينيات من القرن الماضي ، التي شكلت حلقة الوصل مع تلك الشعوب بحكم تمكنهم من اللغة الفرنسية المنتشرة في الأوساط الفرانكوفونية,وبوجودهم زادت وتيرة التبشير الشيعي من خلال تنشيط حركة الترجمة للفرنسية خاصة الكتب التى تخدم المذهب وتنظيم الاحتفالات الدينية الشيعية كالاحتفال بيوم القدس وعاشوراء وبناء المساجد والجامعات وأبرزها الجامعة الإسلامية في غانا.
التقارب مع الطرق الصوفية أحد الدروب التي سلكتها طهران فى طريقها لاختراق الغرب الأفريقي حيث مدت علاقات قوية مع رجال من الطرق الصوفية أصحاب النفوذ القوي في المجتمعات الأفريقية المسلمة وجماعات من الأشراف. الوتر العقائدي كان نقطة التماس الأولى فاستغلت تعلقها بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومفهوم (الأقطاب) المؤثرة في الكون، والتقرب إليها عند قبورهم، وهو ذات المهدي المغيب، والذي يؤثر في الكون من سردابه .فكانت الطرق الصوفية، وما يترتب عليها من ظاهرة المقامات وأضرحة الأولياء الصالحين أحد وسائل الاختراق وذلك بتشبيه المراقد والإمام الغائب بالأضرحة والإمام القطب ,. تحالف المتصوفة الأفارقة مع جماعات التبشير الشيعي كان ضرورة وجودية فرضتها ظروف الواقع لمواجهة التيار السلفي والذي رأى به المتصوفين فى الغرب الإفريقي مساساً بميراثهم الوجداني والثقافي وقد أدرك القائمون على نشر التشيع هذه الطبيعة الأفريقية الخاصة فلم يعادوا التصوف في القارة.
بشائر الفتح الإيراني أفرزت في غانا وحدها ما لا يقل عن 1.18 مليون مسلم شيعي ,وترتفع الأعداد لتصل فى نيجيريا التي لم تسجل أي حضور شيعي قبل الثمانينات , إلى 3.5 مليون، وهناك مصادر أخرى توضح أن عددهم لا يقل عن 10 ملايين. حزب الله النيجيري أو الحركة الإسلامية بقيادة إبراهيم الزكزاكي سبيل التحول المذهبي فى البلاد حيث عمدت إيران إلى استقطابه ,وأمدته بالمال والسلاح عبر أجنحة الحرس الثوري , انبهاره الشديد بالثورة الإسلامية دفعه إلى استنساخ حزب الله اللبناني فجمع الأتباع واقتحم مؤخراً الحياة السياسية واتخذ من ولايتي كوتو وسوكوتو، ثكنة له وميليشياته مبشراً بميلاد دولة جديدة على أرض نيجيريا الاتحادية
التزوير المتعمد للتاريخ ,وطمس ذاكرة الشعوب , الإفك الذي اعتمده قادة الملالي لتكثيف نفوذهم بالشرق الأفريقي فبينما يعتقد أهل الساحل الممتد على طول سواحل الصومال وصولاً إلى زنجبار تنزانيا, أن الإسلام عرف طريقه إلى بلادهم في القرون الأولى للهجرة وعصر الفتوحات , تذهب الرواية الإيرانية إلى فارسية الإسلام فى تلك المنطقة وتدعي أن من أدخل الإسلام هم الشيرازيون القادمون من إيران مع الإمام الشيرازي علي بن الحسن وأنتجت العديد من الأفلام الوثائقية لتؤكد صدق مزاعمها.
التحرش الإيراني بالقرن الأفريقي يعد الأهم في حلقة توسيع مناطق النفوذ , فالمنطقة ذات طبيعة استراتيجيه خاصة و تتحكم عبر مضيق باب المندب فى طرق التجارة العالمية خاصة تجارة النفط , كما أنها تعد ممرا مهما لأي تحركات عسكرية، قادمة من أوروبا، أو الولايات المتحدة، في اتجاه منطقة الخليج العربي,و السيطرة عليها تمثل تهديداً لأمن المملكة العربية السعودية ولمنظومة الأمن الخليجي ويمكن من خلالها توفير أوراق للمساومة في الشرق الأوسط. ويعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذا ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية. وقد نجحت إيران فى فرض وجودها على ضفتي المضيق عبر حضورها في الساحة اليمنية من خلال الحوثيين , وإقامة قواعد عسكرية لها في ميناء عصب وجزيرة دهلك الإريترية.
خارطة النفوذ الإيراني في أفريقيا تبرز فاعلية الأدوات التي استخدمتها طهران لبسط أذرعها في القارة سواء عبر حملات التشيع فى الشمال والغرب التى أدت إلى تحول 15 مليون سني إلى المذهب الجعفري وتقديم مساعدات تنموية في مجالات متعددة .أو من خلال القوة الصلبة المتمثلة في الإمداد بالسلاح والتدريب وغير ذلك.,وتتباين الدوافع الإيرانية من خلف التسلل إلى إفريقيا من بلد إلى آخر فمع وضوح أهدافها من الحضور بالشرق الأفريقي .تتطلع طهران من جهة أخرى إلى الحصول على اليورانيوم الذى تنفرد القارة بحصة توازى 20% من الإنتاج العالمي وتمتلك النيجر سادس أكبر احتياطيات منه.وفى إطار سعى إيران للحصول عليه تبنت سياسة النفط مقابل اليورانيوم. ومع اكتشافه فى غينيا عام 2007 على يد الشركة الأسترالية مورتشيسن يونايتد، بدأت إيران مباشرة برنامجاً للتعاون الاقتصادي معها . تطور العلاقات الاقتصادية أسهم كذلك فى التخفيف من وطأة الحصار وساعد على فتح أسواق جديدة للاستثمار أمام القطاع الخاص الإيراني المحاصر والمتأثر بالعقوبات في فترة ما قبل الاتفاق النووي.
وعلى الصعيد الدولي تعد الكتلة التصويتية الضخمة للقارة أبرز المكاسب الإيرانية حيث يمثل مجموع الدول الأفريقية أكثر من ربع مقاعد الجمعية العامة للأمم المتحدة و تمتلك القارة ثلاثة ممثلين غير دائمين لها في مجلس الأمن ، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، أي أن الصوت الأفريقي إن لم يكن مسانداً فعلى الأقل يمكن ضمان حياده , وهذا ما حدث بالفعل عند مناقشة الملف النووي .حيث امتنعت معظم الدول الأفريقية عن التصويت فيما أيدته دول أخرى، مثل السودان والسنغال وساحل العاج وجيبوتي وإريتريا
الواقع الأفريقي أسال لعاب النظام الإيراني الذي وجد القارة لقمة سائغة وهدفاً يمكن اختراقه بسهوله نظرا ً لطبيعته الجغرافية وتركيبة الشخصية الأفريقية السهلة المنفتحة ,وعلى مدار ثلاثة عقود عملت إيران على خلق حواضن وجيوب لها تتفاوت في قوتها وأدواتها من دولة لأخرى.وفقا للنطاق الجغرافي ، لكن أوراق طهران أوشكت على التساقط مع عجزها عن الوفاء بالوعود التي قطعتها لبعض الدول الإفريقية لتقديم المعونات الاقتصادية ورفض بعض دول الإقليم مثل المغرب والسودان للسياسات الطائفية









اضف تعليق