ماأشبه الليلة بالبارحة ..البشير انقلب على الصادق المهدى واليوم ينقلب عليه رفاق الأمس ..سقط البشير وبقى النظام ..لتتزاحم الأسئلة بشدة حول مصيره ومستقبل السودان ..فعلى الرغم من أن الأحداث المتلاحقة والتى بلغت ذروتها أمس تلف المشهد ومادار خلف الكواليس بهالة من الغموض والضبابية غير أنها بطيعة الحال لاتمنع التساؤلات المشروعة وتؤكد حقيقة واحدة مفادها أن صفحة البشير قد طويت للأبد
هل سقط البشير ليبقى النظام ؟
يعد هذا الاحتمال هو الأبرز لما يحدث في السودان إذ يبدو أن المؤسسة العسكرية حاولت تجنب الموجة الثورية عبر الإطاحة بقائدها كى يتثنى لها إعادة التموضع مجدداً فى البلاد وان ماحدث لايزيد عن كونه نوع متطور من الانقلابات دون أن تقلب الطاولة على الجميع، يتم من خلاله تجديد النظام ليصبح قادراً على التكيف مع المعطيات المستجدة على الأرض . ولعل مايؤكد صحة تلك الفرضية أن رئيس المجلس الانتقالى الذي تم الإعلان عنه الجنرال بن عوف يمثل النظام السابق إذ يعد من رجال البشير ويذهب البعض إلى أن دوره فى المرحلة المقبلة هو حماية الرئيس السوداني السابق من أي مساءلة قادمة، سواء داخلية أو خارجية، لاسيما وأن البشير مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت أمرا باعتقاله على خلفية مزاعم بارتكاب جرائم حرب في منطقة دارفور بالسودان أثناء تمرد بدأ في عام 2003 وأودى بحياة ما يقدر بنحو 300 ألف شخص. ، ونظرياً، يفترض أن يساهم خلع البشير في تعزيز فرص تسليمه إلى الجنائية الدولية لمحاكمته أمامها في لاهاي،لكن من منظور الواقع يبقى مصير البشير الآن رهن موقف القادة الجدد للبلاد
وثمة تكهنات متزايدة حول ماجرى باللحظات الأخيرة التى سبقت بيان وزارة الدفاع السودانية تعزز من فرضية رحيل البشير وحسم القضية بالشكل الذي يضمن بقاء النظام إذ يذهب البعض أن ماجرى ليس وليد الصدفة وأنه تم عقب مشاورات طويلة داخل قيادة المؤسسة العسكرية لاحتواء التظاهرات التى امتدت طلية أربعة أشهر خاصة بعد الكشف عن محاولة للانقلاب داخل الجيش وبحسب مصادر سودانية فإن بيان وزير الدفاع جاء بعد اكتشاف محاولة انقلاب قادها 130 ضابطاً من القيادات الوسيطة في الجيش، للإطاحة برأس المؤسسة العسكرية والرئيس البشير، لكن القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية تصدت لهذه المحاولة ، وحسمت الأمر لصالحها , بل يتردد أن وزير الدفاع نفسه قد أبلغ البشير بمحاولة الانقلاب وضرورة غيابه عن المشهد لتلافى تصاعد الأوضاع
سيناريوهات مابعد الرحيل
التحولات المتسارعة تؤشر إلى أن السودان قد يدخل إلى منعطف خطير إذا لم يتم احتواء الوضع وأن عود الثقاب الذى فجر برميل البارود المشبع بالاحتقان السياسي ضد البشير قد يستمر فى الاشتعال حال عدم التوصل إلى صيغة توافقية تضمن استقرار البلاد
الفوضى والحرب الأهلية
ردودَ الفعل الداخلية إزاء البيان العسكري تعكس رفض المتظاهرين الخطوة التى تبناها الجيش والتى يعدونها نوع من الالتفاف على مطالب الشعب, وأن ثمة احتمالات غير ضئلية تنذر بحدوث توتر بالشارع قد تصل حد الاحتكاك بين الجيش والمحتجين لاسيما ,وأن قرار المجلس العسكري بإعلان حظر التجول وحالة الطوارئ لمدة 3 أشهر رأى به الشارع استهدافاً واضحاً لحراكه ، وأن المراد من تلك الإجراءات دفن الاحتجاجات حتى يستقرالأمر للجيش والذى سيظل وفق القرارات المعلنة وصياً على الحالة السياسية بالبلاد . وقد تبلور ذلك بجلاء تام فى البيانات المتتالية لقوى الحراك التى سبق وأعلنت قبولها بمساعدة الجيش شريطة تسليم السلطة لقيادات مدنية غير أنها تراجعت مع تصدر رجال البشير للمشهد حيث وجه تجمع المهنيين السودانيين، نداء إلى ضباط الجيش، دعاهم فيه إلى التصدي لـ “محاولة سرقة الثورة من قبل سدنة النظام”. وقال التجمع في بيانه مساء الخميس: “نوجه نداء إلى جميع ضباط وضباط صف وجنود الجيش السوداني الشرفاء، الذين انحازوا إلى الشعب ودافعوا عن المعتصمين، إلى الوقوف مع الشعب ضد محاولة سرقة الثورة من قبل سدنة النظام لإعادة إنتاج ذات حواضن الفساد والقهر والظلم”
انفصام عرى التوافق ين الجيش والمتظاهرين تفتح أبواب الاحتمالات على مصراعيها أمام سيناريو العنف والحرب الأهلية لاسيما مع وجود فصائل مسلحة قادرة على القتال على غرار الحركة الشعبية قطاع الشمال (هي الأقوى عسكريًّا وتسيطر على بعض المناطق في جنوب كردفان والنيل الأزرق)، وحركة العدل والمساواة (لديها قوات متفرقة في دارفور)، وحركة تحرير السودان – جناح مِني أركو مناوي (تنشط في دارفور من حين لآخر)، وحركة تحرير السودان – جناح عبد الواحد محمد نور (له قوات محدودة في غرب جبل مرة هزمتها الحكومة مؤخرًا، ويقيم عبد الواحد بصورة شبه دائمة في باريس).
لكن سقوط السودان بمستنقع النزاع المسلح قد تمتد بصماته إلى الصعيد الإقليمي , بشكل يسمح بتحولها إلى مصدر لتهديدات أمنية لدول الجوار خاصة مصر والتى قد تتعرض لموجة نزوح جماعي للاجئين الفارين من الحرب , وبغض الطرف عن أعباء ذلك من الزاوية الاقتصادية , فإنهم قد يشكلون خطراَ متزايداً من الناحية الأمنية إذا ما أقدموا على تهريب السلاح معهم واستخدام الأراضى المصرية لشن هجوم مضاد على السودان , فضلاً عن تصاعد المخاوف من إمكانية استغلالهم لزعزعة الأمن القومى المصرى لحساب دول أخرى وهنا تخشى القاهرة تكرار ماحدث في ليبيا عقب الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011 والذي أسفرعن دخول أسلحة كبيرة ومتنوعة إلى مصر عبر الصحراء الغربية والتي وقع بعضها في يد بعض التنظيمات المسلحة مثل ولاية سيناء، الفرع المصري من داعش أو عناصر جهادية أخرى لها علاقة بتنظيم القاعدة. كما أن الفوضى المحتملة ستؤثر على أمن البحر الأحمر وهو ما يعد مصدراً لقلق دول الخليج , يضاف إلى ذلك مخاطر دخول السودان إلى مرحلة الانهيار الكامل على السيولة الأمنية في إقليم الساحل والصحراء علاوة على ليبيا .
زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لواشنطن تنبىء بتأويل بعض الأحاديث إذ ثمة تزامن لافت مابين الزيارة وتوقيت الانقلاب على البشير بشكل يجعلها تبدو وكأنها منحت الضوء الأخضر للجيش السودانى لضمان استقرار البلاد وذلك انطلاقاً من تداعيات الاحداث على أمن منطقة البحر الأحمر , ذات الطبيعة الا ستراتيجيه الخاصة حيث تتحكم عبر مضيق باب المندب فى طرق التجارة العالمية خاصة تجارة النفط , كما أنها تعد ممرا مهما لأي تحركات عسكرية، قادمة من أوروبا، أو الولايات المتحدة، في اتجاه منطقة الخليج العربي,و السيطرة عليها تمثل تهديداً لأمن المملكة العربية السعودية ولمنظومة الأمن الخليجي ويمكن من خلالها توفير أوراق للمساومة في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من أن السودان عضو بتحالف أرسقا الذى أعلنته الرياض فى ديسمبر الماضى غير أن استمرار القلاقل فى الخرطوم من شأنه تقويض الهدف المعلن والرئيسى للتحالف وهو تحقيق الاستقرار في المنطقة”، والحد من نفوذ القوى الخارجية بمحيط الممر الملاحي على غرار إيران وتركيا لذا فإن وجود الجيش على رأس السلطة بالسودان يعد ضامناً لاستقرار الدولة ولمعادلة التوازن بالمنطقة الحيوية .
التغيير عبر تسوية سياسية
التسوية الشاملة واحتواء الأزمة على مائدة حوار وطني واحد ، حتى لا يتحول السودان إلى سوريا أو حتى عراق آخر لا تستعر بنيرانه قوى الداخل فحسب، وإنما دول الجوار أيضا., أحد الاحتمالات القائمة للخروج من حالة الاستعصاء وذلك رغم كونه مستبعداً, فالجيش على الأرجح لن يقدم السلطة للمدنيين على طبق من ذهب عقب إعلانه عن فترة انتقالية تمتد لعامين يشعر معها الشارع ان النظام يحاول إنتاج نفسه لكنه بذات الوقت يظل السبيل الوحيد للخروج البلاد من دوامة التيه عبر انتقال سلمي للسلطة يلبى طموحات الشارع الغاضب . الأمر هنا بمثابة اختبار فوري لمدى انفتاح المجلس العسكري للحوار مع المحتجين، الممثلين بتجمع المهنيين وغيره من القوى وعلى رأسها حزب الأمة القومي بقيادة الصادق المهدي والذى قد يكون أول المستفيدين من هذا الطرح
إذ ان إبرام تسوية مع النظام من شأنه أن يحيي حلم “المهدي” من جديد فى العودة للسلطة ,فالصادق المهدى رغم وجوده فى منفاه الاختياري فى لندن منذ عام ونحو سنوات فى القاهرة ,غير أنه لم يكون غائياً عن المشهد ,إذ لا يزال حاضراً في ذهنه مشهد إستيلاء عمر البشير على الحكم فى 1989 وانه الأجدر برئاسة بلاده وربما باتت الفرصة مهيأة للمهدى ليرد عليه الكرة ويستعيد مكانه فى حلبة السلطة حتى لو كان ذلك لفترة انتقالية.
الخاسرون من الإطاحة بالرئيس السودانى
يشكل إرغام البشير على التنحى ضربة قاصمة لبعض حلفائه فى مقدمتهم تيارات الإسلام الحركى التى حرص الرئيس السودانى السابق على تقديم نفسه باعتباره أحد روادها في المنطقة، وأفضى إصراره على تطبيق الشريعة على كافة طوائف الشعب إلى انفصال الجنوب في استفتاء يناير 2011 ,خاصة الإخوان المسلمين , حيث كان نظام البشير منصة لتقديم الدعم المالى واللوجستي فى مختلف أنحاء القارة الإفريقية سواء عبر تسليح المليشيات التابعة لهم أو من خلال توفير المأوى والملاذ باستقبال عناصرهم الفارين من مصر وليبيا . كما ارتبطت الخرطوم فى عهد البشير بتنظيم القاعدة و استضافت أسامة بن لادن فى الفترة بين عام 1990 و1996.
كما تمثل الإطاحة بالبشير خسارة فادحة لمحور الممانعة وطموحاته فى منطقة القرن الأفريقى فقد كان الرئيس السودانى حليفا موثوقاً لإيران وزادت الروابط بينهما عمقا عقب الضغوط الاقتصادية والسياسية التى مارستها واشنطن ضد النظامين بزعم رعايتهما الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان ,و اسهمت إيران فى تدعيم أركان نظام البشير عبر المساعدات العسكرية والاقتصادية ليكون نقطة انطلاقها نحو القارة السمراء والقرن الإفريقى . وعلى الرغم من إعلان الخرطوم قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران فى عام 2016 غير أن شواهد عدة تؤكد متانة العلاقة لعل أبرزها وصول سفينة شحن إيرانية لميناء “سواكن” السودانية، فى ديسمبر 2017 , بعد أيام قلائل من توقيع اتفاق بين الرئيس السودانى عمر البشير ونظيره التركى بموجبه تنازل نظام السودان عن الجزيرة لصالح أنقرة لفترة لم يتم الكشف عنها. فضلاً عن زيارته الأخيرة لدمشق فى ديسمبر الماضى والتى رأى بها البعض مغازلة لإيران
الروابط مابين البشير وأنقرة تفسر قلقها المتزايد من رحيله إذ ان الشحنة التركية الموجهة للقرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر من بوابة الخرطوم وطموحها الإقليمي في مزاحمة قوى أخرى على غرارالصين والولايات المتحدة ودول خليجية في السيطرة على منطقة القرن الإفريقي , تجسدت مطلع نوفمبر الماضي في زيارة وزير الدفاع التركي، الفريق أول خلوصي أكار، إلى السودان ، وتضمنت زيارته جزيرة سواكن المُطَلة على البحر الأحمر، والتي منحتها الحكومة السودانية لتركيا لإعادة ترميمها على الطراز العثماني وفق الهدف المعلن لكن تذهب بعض التحليلات إلى أن لدى أنقرة مآرب أخرى من تواجد خلوصي آكار الأخير ،تتمثل في بحث إقامة قواعد عسكرية للتدريب في جزيرة سواكن السودانية خاصة وأنها جاءت فى أعقاب إجازة مجلس الوزراء القومي السوداني ,في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ,اتفاقية للتعاون والتدريب العسكري بين السودان وتركيا؛ بهدف تعزيز التعاون في مجال التدريب ودعم السلام والاستقرار في البلدين.
العلاقة الشخصية بين البشير وأردوغان باعتبارهما من روافد الحركة الإسلامية أسهمت فى تدعيم أركان التحالف بين الجانبين , والذى انعكس بوضوح فى التصريحات القلقة للرئيس التركى وقال أردوغان الخميس “نتلقى أنباء متضاربة، ولا يمكننا معرفة مصير عمر البشير، وما إذا كان في منزله أم في مكان آخر”. لذا فإن خسارة أنقرة للرئيس السودانى لاتنحصر عند المصالح الجيوسياسية والاقتصادية بل تمتد إلى مشروع الإسلام السياسي لاسيما بعد مداهمة الجيش لمركز الحركة الإسلامية والتى تعد واجهة النظام وأحد فصائل الأخوان فى السودان ,إذ أرادت المؤسسة العسكرية التأكيد على استقلالية مسارها وانها لاترتبط بأى فصيل أو جماعة إسلامية .
التحالف الاستراتيجية سمة مميزة للعلاقة بين الخرطوم والدوحة والتى ساندت نظام البشير ماديا خلال فترة الحصار الدولى مابين عام 2007-2012 فضلاً عن موقف السودان والتزامها الحياد الإيجابي حيال الأزمة القطريةوالذى أفرز علاقات استثمارية تجعل من الدوحة أبرز الداعمين و بشدة, لبقاء البشير حيث اعتمدت قطر على المنتجات الزراعية من الخرطوم عقب الأزمة الخليجية , ولعل هذا ما يرجح صحة الأنباء المتداولة بشأن التغطية الإعلامية ضد استجابة الجيش لمطالب المحتجين إذ يذهب البعض إلى ضلوع الدوحة وأنقرة فى تنفيذ خطة مضادة من خلال جماعات إسلامية هناك بغية إرباك عملية انتقال السلطة .
من سيحكم السودان ؟
سرايا الحكمدار بانتظار الساكن الجديد والذى لن يكون على الأرجح من قيادات الصف الأول أو الوجوه المألوفة بالشارع السودانى إذ سينتهي الأمر بالتوافق على شخصية تمثل حلًّا وسطًا للجميع (الجيش، والمتظاهرين، والأحزاب ) حال الاتفاق على التسوية السياسية والذى سيكون أحد الأبناء البارين لدولاب السياسية التقليدي ،وذلك عقب عملية تطهير واسعة تطيح برموز الدولة العميقة . ومع ذلك من الصعب تجاوزثلاثة اسماء لامعة فى صياغة مستقبل الرئاسة أحدهما هو صلاح قوش رئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني والذى يتمتع بدعم إقليمى ودولى وتربطه علاقات جيدة بدول الجوار وعلى راسها الخليج والولايات المتحدة .
فى حين يحظى كمال عبد المعروف رئيس الأركان المشتركة منذ عام 2018 باحترام القوى السياسية حيث ستطاع احتواء الأزمة وأوجزت استراتيجيته فى التعاطى مع الأحداث رسالة مفادها أن الانتفاضة محمية من الجيش.أما المرشح الثالث الداعم للحراك الشعبى هو مصطفى عثمان العبيد رئيس الأركان ووزير الدفاع السابق
مقامرة البشير الخاطئة أفضت إلى عزله إذ تعددت المبادرات الإقليمية لعلاج مواطن الداء فى نظامه ، سواء على المستوى الأفريقي وما يعرف بمبادرة “إمبيكي”فى عام 2017 والتى تضمنت توسيع البرلمان وتشكيل معارضة دستورية معترف بها ، أو على صعيد المبادرات الخليجية منذ انتخابات ٢٠١٥، والتي استندت على توفير خروج آمن للبشير مع حمايته من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية, غير أن استعصاء الرئيس السودانى أجهض تلك المحاولات فقد ظل يراهن عدة أمور لعل أبرزها نجاته من هبات شعبية سابقة فقد شهد السودان على مدار السنوات الماضية ثلاث موجات احتجاجية كان أعنفها في عام 2013 وعلى الرغم من ذلك لم تنجح في الإطاحة به.
اضف تعليق