ما من ثمة تنافر بين المشهدين , إذ أن أحدهما يشتبك والآخر ويعد انعكاساً له , فليس من قبيل المصادفة القدرية أن يتزامن التفجير الانتحاري الذي شهدته تونس في 29 أكتوبر الماضي، ووقع على مقربة من إحدى الدوريات الأمنية التي كانت متواجدة بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، على نحو أدى إلى إصابة 20 شخصًا من بينهم 15 شرطيًا، مع حالة التخبط السياسي التي تعيشها البلاد منذ فترة بشكل أثر على قدرة الدولة على مواجهة التنظيمات الإرهابية
العلاقة الطردية بين تزايد حدة الانقسام السياسي وحدوث وارتفاع بمعدلات الأنشطة الإرهابية ,شبه معلومة لكافة أطراف الصراع فى تونس , وقد ألمح إليها الرئيس الباجي قائد السبسي بعد يوم واحد من الحادث حيث قال إن ” المناخ الذي يوفره الصراع الحزبي يساعد في تواجد الإرهاب على الأرض بقوة مضيفاً أن “الصراعات السياسية عامل له تأثير سلبي على السلام والأمن والمتربصين دائمًا ما يستغلون هذه الصراعات وما ينتج عنها من ترنح أمني”.مضيفا: «نحن منشغلون بزيد وعمر ومن يظل في الكرسي ومن يذهب والأحزاب ولكن هذه ليست مشاكل تونس».
ومع ذلك حلقة جديدة من مسلسل الأزمات الحزبية تدور تفاصيلها اليوم بين جنبات المشهد التونسي وذلك بمضي رئيس الحكومة يوسف الشاهد في مشروع تعديل وزاري واسع رغم معارضة الرئيس الباجي قايد السبسي الذي أكد أن رئيس الوزراء لم يتشاور معه وأن في ذلك تسرعا وسياسة أمر واقع. و أجرى الشاهد، مساء الاثنين، تعديلا وزاريا شمل أكثر من 10 وزارات، لم يحمل أي أسماء جديدة من حزب السبسي الحاكم “نداء تونس”، ومثل في المقابل ائتلافا حكوميا جديدا يجمع بين حزب “حركة النهضة” وحركة “مشروع تونس” وحزب “المبادرة”.
الانقلاب الناعم الذى قاده الشاهد بدعم من حركة النهضة لا يبدو أنه يرمى إلى تحقيق الاستقرار وتسوية الملفات العالقة ووضع حد للأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها البلاد, فقد رفضه نداء تونس وشبهه بانقلاب 7 نوفمبر 1987 والذي تولى على إثره الرئيس زين العابدين بن علي سدة الحكم في تونس بعد إزاحته للرئيس الحبيب بورقيبة. حيث رأى نداء تونس أن حركة النهضة استخدمت الشاهد والذي كان أداة طيعة في أيديهم للهيمنة على تركيبة الحكومة الجديدة وعزل رئيس الجمهورية بغطاء دستوري والتفرّد بالسلطة بـ”عملية انقلابية خطيرة”لاسيما وأن رئيس الوزراء استخدم صيغة “قررت ” بشكل يؤشر إلى أحادية عملية التعديل.
رمال النفوذ والمحاور تكشف أن الطلاق الفوري بين “النداء” و”النهضة , صب في مصلحة الأخيرة بعكس ما كان يرمي إليه السبسي,فقد عززت النهضة موقعها بالحكومة وحافظت على حقائبها الوزارية .ولا يبدو رئيس الجمهورية قادراً على إسقاط قائمة التحوير الوزاري والتشكيلة الحكومية الجديدة لاسيما وأن الدستور لا يلزم رئيس الحكومة باستشارة رئيس الدولة حين يقوم بتعديل وزاري إلا إذا تعلق الأمر بالدفاع والخارجية لأنهما وزارتان سياديتان غير أن التقليد السياسي المتعارف عليه منذ ثورة 2011 هو أن تتم جميع التعديلات الوزارية بالاتفاق والتشاور بين رئيس الحكومة هو الأمر الذي تخطاه الشاهد هذه المرة, ويحتاج الشاهد لتمرير حكومته ومجابهة الرفض الرئاسي إلى الحصول على أصوات 109 نائباً بالبرلمان التونسي, وفى ظل اشتمال الحكومة الجديدة على حركة “مشروع تونس” التي تستحوذ على 14 مقعدا في البرلمان، وحزب “المبادرة” إلى الحكومة، فضلاً عن “حركة النهضة ذات الأغلبية البرلمانية بـ68 مقعدا، وكتلة “الائتلاف الوطني” الداعمة للحكومة والتي تملك 35 مقعدا بات الطريق ممهداً أمام رئيس الوزراء لتحدى السبسي .
“شعرة معاوية” التي انقطعت بين النهضة ونداء تونس من المرجح أن تعود على إثرها الدولة التونسية إلى المربع صفر والمقصود هنا مرحلة ما قبل الانتخابات لاسيما مع اختلال موازين القوى بين “النداء” و”النهضة” الأمر الذي يعنى أن مشهدًا سياسيًا جديدًا بصدد التشكل قد تمتد بصماته إلى التنظيمات الجهادية والتي ستعمد بلا شك إلى استغلال عدم الاستقرار، على المستويين الأمني والسياسي، لتحقيق أهدافها وتوسيع نطاق نفوذها
قد تكون حالة الاحتقان الأيديولوجي أحد أسباب المخاوف المتزايد من أن تكون تونس مقبلة على موجة جديدة من الأنشطة الإرهابية لاسيما وأن آخر العمليات الإرهابية التي نفذت كانت في نوفمبر 2015، عندما استهدف تنظيم “داعش” حافلة لعناصر أمنية وسط العاصمة، لكن ثمة عوامل أخرى تتصل بذلك لعل أهمها الضربات التي تلقتها تلك التنظيمات الجهادية في سوريا والعراق وبخاصة داعش والذي يبذل جهوداً حثيثة للتمدد داخل مناطق جديدة عقب الخسائر التى منى بها فى معاقله التقليدية ,فعلى الرغم من مساعيه الرامية إلى استعادة سيطرته على المناطق التي فقدها خلال السنوات الماضية ,مثل دير الزور والرقة،غير أن أضحى أكثر اهتماما بالبحث عن مناطق جديدة للنفوذ يؤكد من خلالها وجوده بعد أفول نجمه فى العراق وسوريا .
شحنة “قاعدية ” في طريقها هي الأخرى نحو تونس , إذ يسعى تنظيم القاعدة إلى توسيع دائرة نشاطه عبر تفعيل دور كتيبة عقبة بن نافع” والتي تتمركز في مرتفعات الشعانبي والسلوم بمحافظة القصرين على الحدود مع الجزائر لاسيما فيما يرتبط بتنفيذ هجمات ضد قوات الجيش والشرطة واستهداف الأجانب . لذلك على الأرجح ستنشط الكتيبة التي خططت لإقامة “أول إمارة إسلامية” في شمال أفريقيا في تونس بعد ثورة الياسمين 2011 وذلك على خلفية انتقامية بعد مقتل بلال القبى، الذي يعتبر أحد أهم قادة تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، في 21 يناير 2018، بعد دخوله تونس للترتيب لعودة “القاعدة” مرة أخرى إلى داخل البلاد.
تمدد السلفية الجهادية فى تونس عقب ثورة الياسمين والتي ساهمت بشكل واضح في توفير مناخ خصب، لانتشار الظاهرة السلفية بأشكالها التقليدية والسياسية والجهادية الأمر الذي جعل تونس واحدة من أهم دول المنطقة فى تصدير العناصر المتطرفة والمقاتلة للتنظيمات الإرهابية لذا تتزايد التأثيرات والتخوفات المحتملة من عودة العناصر الداعشية إلى جغرافيتها الأصلية واستقطابهم لعناصر جديدة قد تشكل خلايا نائمة مع وجود احتمالات بتنفيذهم عمليات إرهابية لاسيما وأنه هؤلاء قد تشبعوا بالفكر التكفيري وتلقوا تدريبات على المواجهات العسكرية وهو ما ينذر ليس بتهديد الأمن الداخلي لتونس ,فحسب, بل قد يقض مضاجع دول الجوار الجغرافي والإقليمي
تونس تحولت إلى قطعة أسفنج مشبعة بشتى الصراعات الحزبية والسياسية ,حالة العراك والخصومة على السلطة أوجدت بيئة خصبة تسللت منها التنظيمات الجهادية المتطرفة
اضف تعليق