الرئيسية » تقارير ودراسات » كرات اللهب ..إلى أين تتجه الاحتجاجات في السودان ؟
تقارير ودراسات رئيسى

كرات اللهب ..إلى أين تتجه الاحتجاجات في السودان ؟

كرة اللهب  تتسع في السودان والتي تشهد  أكبر موجة من الاحتجاجات الشعبية  ضد الرئيس عمر البشير منذ نحو ثلاثين سنة ومع سعى المعارضة للترويج لتلك التظاهرات يتزايد الجدل حول  تبنى السلطة لسياسة العصا الغليظة وإعلان الجيش تأييده لنظام البشير . فضلاً عن  أن التحول اللافت والسريع في طابع الحراك الشعبي الغاضب أثار حفيظة التكهنات حول مستقبل الوضع فى البلاد لاسيما مع انتقال عدوى التظاهر من مدينة لأخرى ,واستقطابها مدناً جديدة إلى القائمة الغاضبة.

فتيل الاحتجاجات اشتعل من مدينة عطبرة تنديدًا برفع قيمة وجبة الفطور في المدارس لأكثر من الضعف وإعلان المخابز رفع سعر الرغيف من جنيه واحد إلى ثلاثة جنيهات سودانية لكن سرعان ما اتسعت رقعتها تدريجياً، وحُرق على أثرها عدد من المقار الحكومية ودُور لحزب المؤتمر الوطني الحاكم. ومنذ الأربعاء الماضي اشتعلت شرارة الاحتجاجات في  17 مدينة داخل 13 ولاية من أصل 18،لتغرق البلاد فى موجات  تظاهر عارمة تم على إثرها إعلان حالة الطوارئ وغلق الجامعات وسط دعوات للإضراب العام والعصيان المدني اليوم الأربعاء. وعلى مدى 6 أيام من “احتجاجات الغلاء”، لجأت الشرطة إلى القوة لمواجهة المُحتجين الغاضبين، الذين وصفهم المتحدث باسم الحكومة بشار جمعة، في وقت سابق، بأنهم “مُندسّون”، وحذّر من أن السلطات “لن تتساهل” مع أولئك الذين يشعلون النار في منشآت الدولة أو يخربون الممتلكات العامة”.وقال سكان في بعض المدن السودانية التي تشهد اضطرابات، إن الشرطة تستخدم الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين منذ اليوم الأول، وإنها لجأت في بعض الحالات لاستعمال الذخيرة الحية، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). وارتفعت حصيلة القتلى منذ بدء الاحتجاجات إلى 8 أشخاص بحسب السلطات، في حين أكد زعيم حزب الأمة السوداني المعارض، الصادق المهدي، أن العدد وصل إلى 22 قتيلاً

منعطف خطير دخلته التظاهرات الشعبية والتي تعد أكبر تحد للرئيس البشير منذ 30 عاماً  يؤشر إلى أن الموجة الاحتجاجية ليست انعكاساً لأزمة اقتصادية فحسب , لكنها تكشف بذات الوقت عن واقع سياسي خانق , ففي ظل المعالجة الأمنية التقليدية والتركيز على سياسة العصا لمواجهة المتظاهرين  والحديث الدائم عن مؤامرة خارجية  تجاوز المد الغاضب جميع الأطراف بما فيها الحكومة والمعارضة ليرفع شعار ” الشعب يريد إسقاط النظام :وثمة من يربط بين تلك الاحتجاجات  وإجراء تعديلات دستورية تمكن الرئيس عمر البشير من الاستمرار في الحكم لفترات مفتوحة، وتمنحه سلطة عزل حكام الولايات المنتخبين . إذ رأى البعض أن موجة الغلاء كانت عود الثقاب الذى فجر برميل البارود المشبع بالاحتقان السياسي ضد البشير  

“تسونامى السودان”  يختلف هذه المرة عن أي حراك شعبي مماثل شهدته البلاد , إذ يحمل بين ثناياه نقلة نوعية مقارنة بنظرائه حيث انطلق من الأقاليم إلى العاصمة الخرطوم , وليس العكس ,فضلاً عن كون  التظاهرات بدأت بمجموعات صغيرة فى يوم الجمعة 14 ديسمبر/كانون الأول ثم انتشرت بسرعة خاطفة وبعفوية مطلقة  إلى باقي المدن دون وقوف أى حزب أو فصيل سياسي خلفها , بمعنى أن دائرة اللهب امتدت من الأطراف إلى المركز على نحو سريع, بشكل يؤشر إلى  احتمالات عدم صمود النظام طويلاً فى مواجهتها,  حيث استغرق إسقاط نظام الفريق إبراهيم عبود أسبوعاً في عام 1964، بينما صمد نظام جعفر النميري 12 يوماً.

خروج التظاهرات من معقل البشير وحزبه تعكس حجم الغضب ضد  نظام البشير  وأن مقاليد السلطة ربما بدأت تتفلّت من يده  , فقد خرجت من ولاية نهر النيل والتي ينحدر منها الرئيس السوداني وغالبية قيادات الحزب الحاكم , وامتدت رقعتها إلى الولاية الشمالية والتي ينتمي إليها غالبية أبنائها إلى صفوف المؤسسات الأمنية والعسكرية. فضلاً عن استقبال عضوية حزب المؤتمر الوطني الحاكم بنوع من الرضا أو الشماتة وبشكل يعكس عدم رغبتهم فى صد الاحتجاجات , فعلى الرغم من دعوات التظاهر المستمرة منذ 2011 غير أن الحركة الإسلامية كانت تتصدى لها بصورة تجعلها لا تحظى باستجابة تذكر  , وكانت فعالية أدوات الحركة أشد وطأة من القبضة الأمنية  في إخماد أى حراك ضد النظام لكن تبدلت مواقفهم  تجاه البشير نتيجة التهميش المستمر لأعضائها من قبل الحكومات المتعاقبة .

التصاعد السريع وامتداد ألسنة الاحتجاجات أعطى دفعة قوية لأحزاب المعارضة  والتي كانت فى وضع أقرب للاستسلام لسلطة الأمر الواقع  فى ظل ضغوط  دولية مكثفة تطالبها بتقديم تنازلات للبشير ونظامه  , ومع ذلك يساور المتظاهرون بعض الشكوك إزاء تحركات القوى المعارضة على غرار الصادق المهدى  والذى يتهمه البعض بمحاولة الالتفاف وتطويق التظاهرات عبر عقد صفقة سياسية تكون بمثابة قارب نجاة للنظام  وهو ما يرفضه المهدي  حيث أعلن أن حزبه سيقدم مذكرة للرئاسة السودانية، “إما أن تحظى بالموافقة، أو يقود رفضها نحو السير في طريق الانتفاضة الشعبية تضمن خطوات الحل بإقامة حكومة انتقالية  “.

ويطارد الأحزاب المعارضة اتهامات أخرى تتعلق بمحاولة ركوب الموجة الثورية  لتحقيق مكاسب خاصة , وهو ما انعكس بتصريح  الصادق المهدى قبل أيام حول أن ” التظاهرات العفوية تحتاج إلى تخطيط تقوده أحزاب المعارضة”.وتشير التسريبات إلى إبرام اتفاق سري بين تحالف الإجماع بقيادة الحزب الشيوعي، ونداء السودان الذي يتزعمه المهدي، على دعم التظاهرات.

مسارات الأحداث فى السودان قد يصعب التكهن بها , غير أن هذا لا ينفى احتمالات أن يخرج السودان من الاستعصاء الكبير فى ظل حصار خانق مارسه نظام الرئيس عمر البشير طيلة ثلاثة  عقود , إذ يذهب بعض المراقبين إلى وجود ثلاثة سيناريوهات الأول, أن يتنحى البشير تاركاً زمام الأمور بيد حكومة انتقالية من الكفاءات على أن يرأسها أحد قادة الجيش وهو الفرضية شبه المستحيلة فى ظل مأزق محكمة الجنايات الدولية المسلط عليه .فى حين تدور الفرضية الثانية تدور حول إمكانية  قيام جزء من أجنحة الحركة الإسلامية داخل النظام بانقلاب على البشير، وهو ما قد يدخل البلاد إلى دوامة الفوضى. فحتى لو تمكّن البشير من إخماد  المظاهرات فسيكون قد أعطى جرعة مسكنة , فحسب , لا تعالج موطن الداء ، وستجدد الاحتجاجات مرة أخرى وربما تصل الأمور بالفعل  حد الانقلاب إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك , وقد سبق و قاد هو نفسه انقلابا عسكريا على حكومة الصادق المهدي في 1989، وربما باتت الفرصة مهيأة للمهدى ليرد عليه الكرة .

 لذلك  فإن الحل الذي يجنب هذا البلد الذهاب في طريق الفوضى هو العودة إلى الديموقراطية أو على أقل تقدير معالجة قضايا الناس  ووضع نظام جديد بشكل يرضى جميع الأطراف ويضمن تحقيق الاستقرار ويجنب البلاد التداعيات التي شهدتها بعض دول الربيع العربي  .