لطالما شكلت متلازمة الهوية والدين نوع من الانتحار المؤجل بالمنطقة حيث أفضت إلى مقاربة انعزالية للهوية الوطنية وكانت أحد أسباب إثارة المواجهات الطائفية ولأنّ الهوية يمكن أن تكون مصدر الدفء والثراء، كما يمكن أن تكون مصدر العنف. فإن حصرها فى التصنيف الديني والتركيز على أن ديانة المرءهى هويته لا يعني فقط أن يفوّت علينا الاهتمامات والأفكار الأخرى التي تحرك الناس، بل إنّ ذلك يؤدي إلى تضخميها والتحريض على العنف.
حالة الاقتران الخاطىء بين الهوية والدين أفضت إلى إشكاليات عدة فى مجتمعاتنا إذ لم تجعل , من الدين أو المذهب هدفا اساسيا، بمعنى نريده لأنه متدين وليس لأنه كفء للمهمة بعيدا عن عقيدته أو دينه، طالما أنه كفء وملتزم بالقانون. ويسقط الكفؤ في الانتخابات لأنه لم يعرف عنه أنه يصلي مثلا, بل تجاوزت تأثيراتها إلى نشوء العنف العابر للحدود فالتنظيمات الجهادية المتطرفة ولدت من رحم اختزال الهوية فى الدين فقط وتراجع الهويات الوطنية لصالح الهوية الدينية والهوية المذهبية ,على سبيل المثال لا الحصر ينطلق فكر تنظيمى القاعدة وداعش من تفسير دينى ملتبس ينزع عن المسلم هويته الوطنية ويرى أن أرض الله واسعة وأن الحدود والأوطان هى أمور مصطنعة . حيث تعتبر أيدلوجيا داعش والقاعدة أن الانتماء الوطنى بمثابة الكفر .
صعود الهوية الدينية والمذهبية على حساب الوطنية شكل منعطفاً خطيراً حيث اضحى المذهب وطن , وتحول الشريك فى المواطنة إلى عدو بسبب الاختلاف العقائدى والمذهبى , ولعل أبرز الشواهد على أن الهوية الدينية باتت هى المحرك الرئيسى للشباب كان فى تخلى بعض الشباب الفلسطينى عن هويتهم الوطنية و اتخذوا من الدين ثم المذهب هوية وسافروا من غزة والضفة إلى أفغانستان ليحاربوا ما اعتبروه عدوالله والدين هناك , وفيما بعد عدو المذهب فى سوريا مديرين ظهورهم لخصمهم الحقيقى .
ومع ذلك فإن الآيات المبشرة بفك الارتباط بين الهوية والدين تجلت بوضوح فى جنبات المشهد التظاهرى فى العراق ولبنان , إذ أن الاحتجاجات الأخيرة قد تكون بداية النهاية للنظام الطائفى فى العالم العربى و ربما تفتح الطريق نحو صياغة جديدة لمفهموم الهوية والطائفية يمكن من خلاله تشكيل وعى معمق بهوية مشتركة من شأنها تحسين الحياة والعمل المشترك، بدلاً من التقسيم والتعصب.
تضاءل فكرة الهوية الطائفية وبروز اللحمة الوطنية سمة مشتركة بين مكونات الحراك في الشارعين العراقى واللبنانى , وكما لعبت الورقة الطائفية دوراً محورياً في تشكيل المشهد السياسي وإن كان بدرجات متفاوتة.فإن التظاهرات فى كلا البلدين حملت رسائل رفض شعبى للحكم المبنى على الهويات الدينية وتقاسم الطوائف وبدت اللحمة الوطنية برفع أعلام الدولة وابتعاد الشعارات عن الحزبية والطائفية الضيقة والتركيز على الإصلاح السياسي والاقتصادي ومحاربة الفساد وتغيير الطبقة السياسية الحاكمة ومن خلال الدعوات إلى تأسيس نظام حكم بديل وفق قانون عصري لا طائفي يساهم فى تحقيق الاستقرارالسياسي والتعددية والمشاركة الديمقراطية.
ومع أن الحل المرحلي ربما يكمن في تكوين حكومات تكنوقراط واعتماد الكفاءات فقط؛ غير أن ما يدور فى كلا البلدين يعد مؤشراً على نمو وعى شعبى بأن المحاصصة الطائفية لم تعد صالحة للاستمرار وأن ثمة متغيراً جديداً طرأ على المجتمعات قد يفضى إلى بعث جديد للهويات الوطنية على أنقاض الدينية والمذهبية .
اضف تعليق