تتزايد تعقيدات المعادلة السورية وتتشابك مفرداتها بصورة تؤشر إلى انسداد أفق الحل السياسي على المدى المنظور , فبينما لم تسفر الجولة الحادية عشر من محادثات آستانة , والتي عقدت يومي 28 و29 نوفمبرعن نتائج ملموسة , يواجه الاتفاق الروسي – التركي حول إدلب تحديات صعبة .
تواضع مخرجات الجولة الأخيرة من محادثات آستانة والتي لم تفلح جهود الأطراف المشاركة بما فيها فيها النظام والمعارضة إلى جانب الدول الضامنة وهى روسيا وإيران وتركيا إلى تحقيق الحد الأدنى من التوافق على البنود الرئيسية، وفي مقدمتها اللجنة الدستورية, تؤشر إلى أن آفاق أى تسوية محتملة ستواجه عقبات عدة لاسيما مع التطورات الميدانية التي شهدتها الساحة هناك مؤخراً , فضلاً عن كونها ستزيد من صعوبة المهمة التي سيتولاها المبعوث الجديد سيتولاها المبعوث الأممي الجديد إلى سوريا غير بيدرسون.
رياح الواقعية السياسية تحمل مابين ثناياها إشكالية تفاهمات آستانة وإخفاقها فى التوصل عبر جولاتها المتعددة إلى مسارات حقيقة لإنهاء الأزمة , فالمعضلة الأساسية تتمثل في أن القضايا التي تمت مناقشاتها وحسمها هي أمور فرعية لا تمس المصالح العليا للدول المنخرطة فى الصراع و أجندتها وبالتالي حدث نوع من التوافق النسبى بشأنها .
تفاهمات تكتيكية صفة يمكن إطلاقها على جولات آستانة لاسيما وأنها لم تركز بشكل كبير على الخلافات الجذرية وتناولت ملفات فرعية إذ لم تتطرق بصورة موسعة لموضوعات مثل شكل الدولة السورية وطبيعة نظام الحكم والعلاقة بين المكونات المجتمعية المختلفة للشعب السوري.ولعل هذا ما دفع واشنطن إلى تقليص أهمية اجتماعات آستانة والتأكيد مؤخراً على أن وصلت إلى طريق مسدود في ظل إدراك الإدارة الأميركية عمق الخلافات بين أطرافها بما فيها الدول الضامنة وعجز تلك المحادثات عن إجبار النظام السوري على المضي قدما في تنفيذ مسار التسوية السياسية بإشراف الأمم المتحدة
تشابك الأزمات بين الدول الفاعلة بالملف السوري وتطوراتها الميدانية حالت, هى الأخرى ,دون خروج آستانة بتداعيات إيجابية , إذ تتعاطى معظمها مع القضية السورية وفق مستجدات الأحداث , وبينما تبدو إيران شديدة الحرص على عرقلة أى جهود لتسوية متحملة حيث تربط بين العقوبات الأميركية والضغوط التى تتعرض لها وحدوث تقدم فى إنهاء الأزمة السورية , ألقى التوتر الطارىء بين واشنطن وموسكو بظلاله على الأوضاع حيث قام خفر السواحل الروسية، في 25 نوفمبر 2018، باحتجاز ثلاثة سفن أوكرانية بالقرب من شبه جزيرة القرم، مما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إلغاء لقاء كان من المقرر عقدها مع نظيره الروسي فيلاديمير بوتين على هامش اجتماعات قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين فضلاً عن توجيه روسيا انتقادات لاذعة لمحاولات الولايات المتحدة تقليص أهمية النتائج التي يمكن أن تخرج عن اجتماعات الآستانة.
اختبار صعب يواجهه اتفاق سوتشى وذلك بعد نحو شهر ونصف من دخوله حيز التنفيذ , إذ تعرضت 3 أحياء في مدينة حلب لهجوم بغاز الكلور أسفر عن إصابة نحو 107 مدنيين بحالات اختناق واتهمت روسيا “هيئة تحرير الشام” بالضلوع في الهجوم وسارعت موسكو على إثر ذلك إلى شن غارات جوية على إحدى النقاط في إدلب . كما أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيجور كوناشينكوف عن تشكيل فريق متخصص فى الأسلحة الكيماوية لإجراء تحقيق .
وعلى الرغم من أن جولة آستانة الأخيرة شهدت محادثات تتعلق بانتهاكات التهدئة وضرورة الالتزام بوقف إطلاق النار في إدلب غير أن الهجوم الكيماوي يحمل تأثيرات و دلالات عدة خاصة وأن الاتهامات هذه المرة لم تعد مقتصرة على النظام بل امتدت إلى التنظيمات المتطرفة بما يعنى إمكانية حدوث هجوم مماثل , وقد حذر بيان لوزارة الدفاع الروسية، من أن مسلحين يعدون لهجوم كيماوي على مقاتلين مدعومين أميركيا في شرق سوريا. وأضافت ، أنها علمت من مصادر استخبارية متعددة أن مسلحين من داعش يقومون بتزويد مدافع هاون بعناصر كيماوية قتالية استعدادا للهجوم على قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.كما ذكر البيان، أن المسلحين يعتزمون شن هجوم على بلدة هجين في محافظة دير الزور شرق البلاد، من مواقع تتواجد بها وحدات الجيش السوري أملا في استفزاز ضربة مضادة أميركية على مواقع القوات الحكومية.وقالت الوزارة، إنها سترسل وحدة حماية ضد الأسلحة الكيماوية إلى المنطقة لمراقبة الوضع.
الخرق الأخير لاتفاق خفض التصعيد في إدلب , ربما يكون الأول من نوعه لكنه يكشف محاولات جميع الأطراف بما فيها النظام السوري استغلاله لخدمة أغراضها , إذ عمدت روسيا إلى توظيفه للضغط على تركيا بشكل يدفع نحو تفعيل الجدول الزمني لإخراج “هيئة تحرير الشام” لكن حال عدم الالتزام ببنود سوتشى فإن ذلك قد يفضي إلى احتمالات تتعلق بتعزيز الانتشار العسكري الروسي في المنطقة على اعتبار أن القوات التركية لم تنجح في تحقيق الغرض من الاتفاق . وتشير الأنباء الواردة من الأرجنتين إلى تحرك الأطراف نحو احتواء الموقف لكن مع تحريك بنود الاتفاق حتى لا يترك عرضة للانتهاك مستقبلاً. حيث أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن الرئيسين الروسي والتركي فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان أكدا، على هامش قمة العشرين في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، على الاتفاق حول إدلب السورية واتفقا على اتخاذ مزيد من الخطوات لضمان احترام الاتفاق على إنشاء منطقة منزوعة السلاح بحيث لا يحاول المتطرفون تخريب هذا الاتفاق. ونقلت وكالة أنباء (سبوتنيك) الروسية عن لافروف، قوله ” أشير إلى أنه على الرغم من الإجراءات النشيطة والتراتبية لزملائنا الأتراك ، بعد كل شيء، فإنه ليس كل المتطرفين خضعوا لمطالب إخلاء منطقة الـ 20 كلم المنزوعة السلاح”.
النظام السوري وجد في الهجوم الكيماوي فرصة لتوجيه انتقادات حادة للاتفاق والذي لم يحظ بتأييد نظام الأسد منذ البداية , والتأكيد على ارتباط المعارضة بالفصائل المسلحة , حيث اتهم رئيس وفد الحكومة السورية إلى آستانا بشار الجعفري تركيا بعدم تنفيذ اتفاق المنطقة منزوعة السلاح بإدلب، مشيرًا إلى أن قصف حلب الأخير بالمواد الكيماوية كان بمساعدة خارجية .كما سعت وسائل الإعلام الموالية لنظام الأسد إلى تأكيد أن اتفاق سوتشى هش وغير قابل للاستمرار، متهمة المعارضة والفصائل المسلحة بالوقوف وراء الهجوم أو دعم “هيئة تحرير الشام” في القيام به، على نحو دفع الأخيرة إلى نفى تلك الاتهامات والإشارة إلى أن النظام وإيران يتحملان مسئولية الهجوم.
اتفاقات خفض التصعيد وجولات سوتشى ,على الأرجح , لن تسفر عن تقدم في مسارات التسوية على المدى المنظور لاسيما مع تباين أجندات الأطراف الفاعلة في الأزمة, الأمر الذي قد ينذر بإعادة إنتاج التصعيد وإطالة مدى الصراع .
اضف تعليق