فى لحظة محورية ..قتل الرجل الذى كانوا يتندرون أن إصابته بالصداع قد تحدث إنقلاباً فى بغداد ودمشق ..ومع أن الترقب هو سيد الموقف الراهن وبالرغم من توعد خامنئى بالثأر لمقتل الجنرال قاسم سليماني غير أن خيارات طهران فى الرد تظل محدودة فى ظل العديد من المعطيات أبرزها فلسفة النظام الإيراني الذى عادة ما تكون ردود فعله غير منطقية ويتحلى بالهدوء حين يتطلب الأمر الصراخ وينشط فى حالات تستوجب الصمت .
دلالة التوقيت فى مقتل سليمانى باتت واضحة ,حيث أردت الإدارة الأميركية بث رسالة من العملية مفادها أنها لن تتهاون، ولن تتراجع أمام المشروع والتحركات الإيرانية في المنطقة العربية ولاسيّما في العراق. وأن واشنطن تمتلك بيدها العديد من الاوراق التي يمكن ان تلعبها مع طهران وقد تتقلب بين الخيار السياسي والعسكري بحسب ما تقتضيه الظروف لاسيما وأن عملية الاستهداف جاءت على وقع معلومات استخباراتية عن تحضير قاسم سليماني وميليشيات الحشد الشعبي وميليشيات أخرى لهجمات ضد المصالح الأمريكية.
رمزية مهمة أيضاً حملها اغتيال مقتل سليمانى فبالاضافة إلى تأكيد قدرة واشنطن على تبنى أى خيار لمواجهة إيران تؤشر كذلك إلى عودة الولايات المتحدة وانخراطها مباشرة في الوضع الإقليمي بالشرق الأوسط وثمة مايربط بين مقتل قائد فيلق القدس و ماتردد من أنباء حول تخوفات الجهات الشيعية التي تعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية تهيئ لانقلاب عسكري يقوده قادة في جهاز مكافحة الإرهاب، للإطاحة بالنظام السياسي الحالي في البلد، الذي يدين بالولاء إيران, خاصة أن التقارير الإعلامية الغربية سبق وصفته بأنه “الحاكم الفعلى السرى للعراق. فقد أرسل فى مطلع عام 2008 رسالة إلى الجنرال ديفيد بترايوس عندما كان قائدًا للقوات الأمريكية في العراق على هاتفه الشخصي يقول فيها : أنا قاسم سليمانى أتحكم في السياسة الإيرانية المتعلقة بالعراق ولبنان وغزة وأفغانستان، والسفير الإيراني لدى بغداد عنصر من عناصر فيلق القدس، والسفير الذي سيحل محله عنصر أيضاً”
فرصة ألا تردّ إيران على قتل سليماني هي “صفر” بامتياز لأن، العملية تحمل بين طياتها إهانة للنظام الملائي الذى طالما اعتبر الجنرال “أقوى مسؤول أمني” في الشرق الأوسط ” وعمد إلى تصويره كبطل عسكري ورجل يمكن الاعتماد عليه في مواجهة المستقبل المجهول. ويتمتع قائد فيلق القدس بنفوذ واسع فى الداخل حيث يعد ثاني شخصية في إيران بعد المرشد خامئني في تحكمها بالقرار الأمني والعسكري بل و السياسي ,حتى وإن كان الدستور ينص على أن رئيس الجمهورية هو الرجل الثانى بإيران إلا أن امتلاك سليمانى لمفاتيح العمليات السرية الخارجية منحه سلطات واسعة برزت فى تهديده خلال مارس 2017، بمنع الإصلاحيين وكل معارضي التدخل الإيراني في المنطقة من تبوأ أي منصب سياسي، لأنهم هتفوا في احتجاجات الانتفاضة الخضراء عام 2009 بالاهتمام بمشاكل وأزمات إيران بدل إعطاء الأولوية والتدخل في قضايا فلسطين ولبنان حيث يمثل سليمانى يإيمانه الشديد بمبادىء الثورة ذروة التشدد الإيراني ويعد أحد رموز الدولة العميقة.
لكن التقديرات تفاوتت حول حجم ونطاق ومكان الرد المتوقع من جانب إيران والتى ستعمد إلى إظهار القوة وليس الضعف مع تجنب اندلاع حرب شاملة على نطاق واسع نظرا للفارق الهائل في ميزان القوى , لذلك قد تعتمد في ردّها على استخدام آلية المجال غير المتكافىء من خلال ذراعها اللبناني أي حزب الله و ميليشياتها في العراق فضلاً عن الحوثيين في اليمن، أمّا مضيق هرمز و ناقلات النفط ستكون لها الحصة الكبيرة لهذا الملف على غرار اسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة وضرب ناقلات البترول واعتراض السفينة البريطانية واحتجازها وتدمير المنشآت النفطية السعودية. ولعل مايرجح هذا الاحتمال التفاعل السريع من الحوثيين فى اليمن حيث اعتبر محمد الحوثي، رئيس اللجنة الثورية أن “الرد السريع هو الحل على اغتيال سليماني والمهندس، وأن الرد السريع و المباشر في القواعد المنتشرة هو الخيار والحل”.
مقتل “حج قاسم سليماني” سيطبع بصماته على الحرس الثورى فقد جرت في هذه التركيبات الشمولية أن يكون الجانب المالي والإقتصادي أو العسكري أو الأمني مركزاً بشكل كبير على شخصية القائد. لهذا سيحاول الحرس الثورى أن يصدر صورة إنه ما زال قوياً ومتماسكاً وأن قتل سليماني لن يؤثر عليه وهو ما انعكس فى القرار العاجل الذى أصدره المرشد بتعيين إسماعيل قاآني، قائدا لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وذلك خلفا للجنرال قاسم سليماني.
ونقلت وكالة “فارس” الإيرانية، برقية للمرشد الإيراني علي خامنئي، جاء فيها أنه إثر مقتل سليماني، أحيل منصب قيادة قوة القدس في حرس الثورة إلى القائد العميد إسماعيل قاآني، الذي يعد من أبرز قادة الحرس الثوري في حرب السنوات الثمانية بين العراق وإيران في ثمانينيات القرن الماضي.لافتة إن الخطط هي ذاتها المعتمدة في عهد سليماني”، داعية “جميع الكوادر في هذه القوة إلى التعاون مع القائد قاآني”.
بيد أن الرياح قد تأتى بما لاتشتهى سفن “قاانى ” فى ضوء ورود أنباء برغم التعيتم الشديد من داخل إيران حول التذمر فى صفوف الحرس وحملة الاعتقالات في صفوف قادة الحرس الثوري، ومنها اعتقال الجنرال محمد تافالي النائب السابق لرئيس الشؤون الاستراتيجية بالحرس الثوري أثناء هروبه من البلاد، وهروب الجنرالات باسم مصطفى ربيع، وعلي ناصري وبالرغم من نفي الحرس الثوري تلك التقارير واعتبارها “شائعات وتكتيكات أعداء” وأن الأشخاص المذكورين قائمون على رأس عملهم، إلاأن تعيين المرشد الأعلى آية الله خامنئي بديلاً عنهم وتعيين حسين سلامي المفاجىء قائداً للحرس الثوري خلفاً لـ“محمد علي جعفري” وذلك بعد أيام قليلة من تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية الميليشيا كتنظيم إرهابي يؤشر إلى صحة التقارير الأميركية , بما يعنى أن مقتل سليمانى قد يرخى بظلاله على المؤسسة الأقوى فى إيران والتى قد تشهد مزيداً من الانشقاقات .
مقتل سليمانى يمثل فرصة تاريخية للنظام الملائي للحشد الجماهيرى وتجاوز الحرك الاحتجاجى , وعلى الأرجح سيلجأ الحرس الثورى إلى تأجيج الخطاب المعادى لواشنطن وتوظيفه لامتصاص بعض الاحتقانات الشعبية في الجسد الإيراني وهو ما يمكن تحقيقه بسهولة فى اللحظة الرهنة لاسيما وأن قاسم سليمانى يحظى بشعبية عارمة اكتسبها من خلال عملية التلميع الممنهج والتى بلغت ذورتها حين تم الكشف عن طابع بريدي يحمل صوره فى 2017 , فقد أصبح الجنرال قليل الظهور إعلامياً، والذى لم يكن من السهل التعرف عليه ولو بالشارع الإيرانى , المادة الرئيسية للأفلام الوثائقية ونشرات الأخبار وحتى بعض أغاني موسيقى البوب في طهران ولعل هذا مايفسر خروج عشرات الالاف فى مظاهرات منددة باغتيال سليمانى .
فى كل الأحوال سيخلف مقتل سليمانى تداعيات جيوسياسية على المنطقة وسيمثل نقطة تحول في علاقات واشنطن مع العراق وإيران، وسوف يُلقي بظلاله على وضع الولايات المتحدة في المنطقة بأكملها لكنه على الأرجح لن يضعنا بمواجهة سيناريو الحرب الشاملة .
اضف تعليق