الجمهورية الإسلامية الإيرانية تروّج لقرارها التصديق المشروط على اتفاقية الأمم المتحدة لقمع تمويل الإرهاب (CFT) باعتباره اختراقًا دبلوماسيًا وإشارة إلى أن طهران أصبحت أخيرًا مستعدة للتعاون مع فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية (FATF)، في خطوة قد تتيح لها استعادة الوصول إلى النظام المالي العالمي. لكن في الواقع، لا يعد هذا القرار سوى خداع محسوب، ولا ينبغي لأحد أن ينخدع به.
فمن خلال تصديقها المشروط، كما جاء في بيانها “وفقًا للدستور” و”لقوانينها المحلية”، تكون إيران قد استثنت نفسها فعليًا من الالتزامات الأساسية للاتفاقية، وهو ما يسمح لها بالاستمرار في تمويل الجماعات والميليشيات التي جعلت منها أكبر راعٍ للإرهاب في العالم.
وبحسب معايير FATF، فإن الانضمام إلى الاتفاقية يجب أن يكون غير مشروط، بينما يفرغ التحفّظ الإيراني الاتفاقية من جوهرها، إذ ينص بندها المركزي على تجريم تمويل الإرهاب “بأي وسيلة كانت، مباشرة أو غير مباشرة”.
إيران تصر على أن منظمات مثل حزب الله وحماس وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية ليست جماعات إرهابية، بل “حركات مقاومة”، مما يجعل تصديقها المشروط تجسيدًا رسميًا لهذه الازدواجية. فهي تدّعي الالتزام على الورق بينما تواصل في الواقع تمويل هذه الجماعات، في انتهاك واضح لنص وروح الاتفاقية.
على مدى أكثر من أربعة عقود، تعاملت طهران مع الإرهاب كأداة أساسية في سياستها الخارجية. فـ”قوة القدس” التابعة للحرس الثوري الإيراني تدير شبكة عالمية معقدة تنقل الأموال والأسلحة والأفراد بشكل غير مشروع إلى وكلائها في لبنان وسوريا والعراق وغزة واليمن. ويُقدّر أن حزب الله وحده يتلقى مئات الملايين من الدولارات سنويًا من إيران.
ينبغي على FATF أن تحكم على إيران من خلال الأفعال الملموسة لا التصريحات الرمزية، مثل إغلاق قنوات غسيل الأموال غير المشروعة، وملاحقة القائمين عليها قضائيًا، وقطع صلة الحرس الثوري بالنظام المالي الدولي. لكن حتى الآن، لم تتخذ طهران أيًّا من هذه الخطوات، بل طوّرت أساليب التفافها على العقوبات عبر شركات واجهة وتجارة المقايضة والمعاملات بالعملات الرقمية، بما يضمن استمرار تمويل ميليشياتها في الخارج.
وزارة الخزانة الأمريكية تدرك هذا النمط الإيراني منذ سنوات، بغض النظر عن الحزب الحاكم. فمؤخرًا، فرضت عقوبات على شبكات غير مشروعة يديرها حسين شمخاني، نجل مستشار المرشد الأعلى علي شمخاني، وتتحكم هذه الشبكات في جزء كبير من صادرات النفط الإيراني. وأشارت الوزارة إلى أن أرباح هذه الأنشطة تُثري عائلة شمخاني والنظام، وتُستخدم لشراء عقارات فاخرة في الخارج بفضل جوازات سفر أجنبية مزيفة تُخفي ارتباطهم بإيران.
ولا يقتصر التواطؤ الإيراني على حلفائها الشيعة فقط. فوثائق عُثر عليها في مجمع أسامة بن لادن في باكستان عام 2011 وكشفت عنها المخابرات الأمريكية، تُظهر وجود علاقة عملية بين طهران وتنظيم القاعدة. كتب بن لادن في إحدى المراسلات: “إيران هي شرياننا الرئيسي للأموال والأفراد والاتصال.”
تحرك عناصر من القاعدة وأفراد من عائلاتهم داخل إيران أو أقاموا فيها تحت قيود معينة، بينما استخدمتهم طهران كورقة مساومة وأداة ضغط، في انتهاك مباشر لجوهر اتفاقية CFT التي تلزم الدول الأطراف بمنع ودعم تمويل أي جماعة إرهابية.
ومنذ إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران في سبتمبر الماضي، أصبحت مزاعم طهران بالالتزام بمعايير FATF أقل مصداقية من أي وقت مضى. فبإعادة العمل بحظر الأسلحة وتجميد الأصول والقيود المالية، أعادت الأمم المتحدة فعليًا الالتزامات التي حاولت إيران التهرب منها.
تُلزم FATF الدول الأعضاء بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، لكن طهران ترفض الاعتراف بشرعية هذه العقوبات وتصفها بـ”غير القانونية”، رافضة تنفيذها علنًا. ومن ثم، لا يمكن لإيران الادعاء بأنها ملتزمة فعليًا بمعايير FATF.
المعضلة هنا هيكلية: فعضوية FATF تفترض التزامًا بالقواعد متعددة الأطراف، بينما تعتمد الأيديولوجيا الثورية الإيرانية على خرقها. فالحكومة التي تموّل حماس وحزب الله لا يمكنها في الوقت ذاته أن تتعهد بقمع تمويل الإرهاب.
الاستراتيجية الإيرانية واضحة: تقديم تنازل شكلي لشراء الوقت وتخفيف الضغط المالي، وبناء صورة دولة “مسؤولة” تتعاون ضد تمويل الإرهاب، في محاولة لإقناع البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية باستئناف التعامل معها.
لكن في الوقت نفسه، ستظل البنوك ذات أنظمة الامتثال الصارمة ترى في التعامل مع إيران مخاطرة كبيرة جدًا، رغم أن بعض الجهات في أوروبا وآسيا قد تحاول استغلال التصديق المشروط كذريعة للعودة إلى السوق الإيرانية.
لذلك، يجب على FATF وأعضائها التمسك بإبقاء إيران على القائمة السوداء حتى ترفع جميع تحفظاتها عن اتفاقية CFT، وتعترف بكل الجماعات الإرهابية المدرجة على قوائم الأمم المتحدة، وتفكك شبكة تمويل الحرس الثوري، وتوقف دعم الميليشيات الخارجية، وتلاحق قضائيًا المسؤولين المتورطين في تمويل الإرهاب، وتلتزم التزامًا كاملًا بالعقوبات الدولية.
أي تساهل دون ذلك سيكون مكافأة للخداع وتقويضًا لمصداقية النظام المالي العالمي.
إن تصديق إيران على اتفاقية CFT ليس إصلاحًا، بل مجرد خطاب سياسي، لا يغيّر شيئًا في واقع استمرارها في تمويل وتسليح وتنسيق الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط. وإذا قبلت FATF بهذا “الالتزام المشروط”، فستُرسل رسالة خطيرة مفادها أن الاعتبارات السياسية أصبحت تفوق إنفاذ القانون، وأن أكبر راعٍ للإرهاب في العالم يمكنه شراء الشرعية بسطرٍ صغير في الهامش.
يجب على مجموعة العمل المالي (FATF) أن تُبقي النظام الإسلامي في إيران في مكانه الصحيح: على القائمة السوداء.
سعيد قاسمي نجاد وتوبي ديرشوفيتز.- ناشيونال انترست
اضف تعليق