الرئيسية » تقارير ودراسات » السودان يحتاج إلى انتقال حقيقي من الحكم العسكري
تقارير ودراسات رئيسى

السودان يحتاج إلى انتقال حقيقي من الحكم العسكري

يقف السودان عند مفترق طرق خطير، والمخاطر تمتد إلى ما هو أبعد من الخرطوم. إن مصير هذه الأمة المنقسمة الآن يتقاطع مع مصالح أمريكا في البحر الأحمر، والشرق الأوسط، ومعركتها الأوسع ضد التطرف المسلح. لطالما دارت دبلوماسية واشنطن حول حقيقة مركزية واحدة: طالما ظلّ الجنرال عبد الفتاح البرهان القائد العسكري ورأس الدولة بحكم الأمر الواقع، فلن يكون هناك سلام حقيقي للحرب الأهلية في السودان، ولا انتقال حقيقي، ولا شراكة مستدامة بين السودان والعالم الديمقراطي. إن قبضته المزدوجة على السلاح والحكومة تجعل من كل مفاوضات مهزلة، ومن كل هدنة استراحة مؤقتة تسبق الهجوم التالي.

لقد ورثت إدارة ترامب إرثًا معقدًا في القرن الإفريقي، وهي الآن أمام فرصة لتصحيح المسار عبر الوضوح والعزم بدلاً من الجمود. ففي الثاني عشر من سبتمبر، أصدر “الرباعي” (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر) بيانًا كان يجب أن يشكّل نقطة تحول، أعلن فيه بشكل لا لبس فيه أن “جماعة الإخوان المسلمين يجب ألا يكون لها أي دور في مستقبل السودان”. ودعا البيان القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) إلى وقف الأعمال العدائية وتسليم السلطة إلى إدارة مدنية انتقالية. لكن ردّ البرهان كان التحدي. إذ لم ترفض قواته الدعوة إلى وقف إطلاق النار فحسب، بل كثفت أيضًا ضرباتها حول أم درمان والممر الشرقي، ما جعل كل طاولة سلام مغطاة بدخان المدفعية الطازجة.

لقد كان توطيد البرهان لسيطرته منهجيًا؛ فقد عيّن رؤساء وزراء ووزراء موالين له، وأعاد ترتيب كبار الضباط، ودمج الميليشيات الإسلامية في هيكل القوات المسلحة، واستبدل أي معارضين محتملين بحلفاء أيديولوجيين. لقد تماهى قيادُه العسكري مع حكمه السياسي. وهذا التزاوج بين القوة والحكم هو بالتحديد ما أفشل محاولات الانتقال السابقة في تاريخ السودان الحديث. ففي كل مرة وعد الجنرالات بالإصلاح، كانوا فقط يعيدون تغليف احتكارهم للسلطة.

وفي الأثناء، أصبحت الكلفة الإنسانية لا تُحتمل. مدن بأكملها مثل الفاشر تحت الحصار أو مقسّمة. وتقدّر الأمم المتحدة أن ما يقارب نصف سكان السودان – أي نحو 25 مليون شخص – يواجهون الجوع الحاد أو خطر المجاعة. انهارت المستشفيات، ولم تُدفع رواتب المعلمين، وملايين المدنيين محاصرون بين خطوط القتال التي تتبدل يوميًا.

أما التداعيات الإقليمية فهي خطيرة بنفس القدر. فساحل السودان على البحر الأحمر يمثل أحد أكثر الممرات الاستراتيجية للتجارة والطاقة في العالم. إن السودان المسلح، المتشابك مع فصائل إسلامية ومصالح إيرانية، يهدد بزعزعة استقرار ذلك الممر. وقد تبع عودة طهران إلى السودان بعد قطيعة دبلوماسية دامت سبع سنوات وصول طائرات مسيّرة وأنظمة دفاع جوي و”مستشارين”. وإذا تُرك الأمر دون ضبط، فستستخدم إيران السودان كموطئ قدم نحو البحر الأحمر ونقطة ضغط على إسرائيل والقوات الأمريكية في المنطقة. من هذه الزاوية، لم تعد معركة السودان محلية، بل أصبحت صراعًا على النظام الإقليمي نفسه.

لذلك، يجب أن تبدأ منطقية الانتقال من حيث فشلت الجهود السابقة: بإزالة البرهان فورًا من المعادلة. فالتفاوض معه، وهو لا يزال يسيطر على الجيش والخزانة وأجهزة الاستخبارات، يعني التفاوض مع الهيكل نفسه الذي يطيل أمد الحرب. يجب على واشنطن أن توضح أن استمرار انخراطها ومساعداتها وشرعيتها الدبلوماسية مشروطة بشرط واحد: استقالة البرهان وإنشاء حكومة مدنية تكنوقراطية مؤقتة تحت إشراف دولي.

ولا حاجة لأن تكون تلك الحكومة ضخمة، بل صغيرة ومنضبطة ومؤقتة – لمدة تتراوح بين اثني عشر وأربعةٍ وعشرين شهرًا – لإعادة بناء مؤسسات الدولة الأساسية، واستعادة المصداقية المالية، والتحضير للانتخابات. يجب ألا يكون الإشراف المدني على الجيش قابلاً للتفاوض: يجب نقل سلسلة القيادة إلى وزير دفاع مدني، وفتح الميزانية للتدقيق، ودمج التشكيلات شبه العسكرية أو حلّها بموجب القانون. يمكن لمجلس متناوب من التكنوقراط – لا من النخب السياسية – أن يدير المرحلة الانتقالية، بدعم من الشركاء الإقليميين والمجتمع الدولي. هذا النهج ليس نظريًا، بل يستند إلى سوابق ناجحة في ليبيريا وتونس، حيث ساعدت إدارات تكنوقراطية مؤقتة على إعادة ضبط بوصلة الدول بعد سنوات من الانقسام.

بالنسبة لإدارة ترامب، تمثّل هذه فرصة لصياغة عقيدة “الواقعية البنّاءة” – تكون حازمة بما يكفي لحماية المصالح الأمريكية، لكنها عملية بما يكفي لتمكين الملكية المحلية. إن ربط كل المساعدات بتقدم ملموس في السيطرة المدنية وإصلاح قطاع الأمن سيكون إشارة على الجدية. كما أن إنشاء هيئة رقابة متعددة الأطراف تضم الرباعي والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي سيوفر للمصلحين في السودان الغطاء اللازم للتحرك. وضمان الممرات الإنسانية – المحمية والمراقبة والمعزولة عن التدخل العسكري – سيعيد التأكيد على القيادة الأخلاقية لأمريكا في لحظة يتزايد فيها التشكيك العالمي في التزامها بالديمقراطية.

قد يجادل البعض بأن المطالبة برحيل البرهان تنطوي على خطر زعزعة الاستقرار، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا: إن استمراره في الحكم يضمنها. فكل يوم يبقى فيه، تترسخ الشبكات الإسلامية أكثر، وتتسع رقعة النفوذ الإيراني، وتتفاقم الكارثة الإنسانية. إن الاستقرار المبني على القمع والخداع مجرد سراب؛ والنظام الحقيقي لا ينبع إلا من الشرعية. وكلما واصلت واشنطن الوهم بأن البرهان يمكن أن يكون في آنٍ واحد مُشعل الحريق ورجل الإطفاء، كلما امتدت النيران – من الخرطوم إلى القاهرة، ومن بورتسودان إلى الخليج.

شعب السودان لا يطلب المعجزات؛ بل يطلب العدالة والكرامة وحكومة تحكم بدل أن تنهب. على إدارة ترامب أن تقود ائتلافًا يصرّ على هذا المعيار. يجب أن تكون الرسالة حازمة وبسيطة: عهد الجنرالات الذين يقررون مصير السودان قد انتهى. يجب أن يعود الجيش إلى ثكناته، وأن تبقى المساجد خارج الوزارات، وأن يمسك المدنيون أخيرًا بالقلم الذي يكتب دستورهم.

إذا تصرفت الولايات المتحدة بوضوح – مستندة في دبلوماسيتها إلى المشروطية، وموحّدة حلفاءها حول استراتيجية واحدة، ورافضة إضفاء الشرعية على ازدواجية العسكر – فلا يزال بإمكانها المساعدة في توجيه السودان نحو الحداثة والاستقرار. ولكن إذا ترددت، فلن يُدفع الثمن بأرواح السودانيين فحسب، بل سيُدفع أيضًا في شكل مصداقية مفقودة، وردع ضعيف، وقوس متنامٍ من التطرف يمتد عبر البحر الأحمر. التاريخ لن يغفر التأخير، وسيتذكر من كان بيده إنهاء هذه الحرب – واختار بدلاً من ذلك أن ينتظر.

المصدر: نيجر إينيس – ناشيونال انترست