شهدت ليبيا خلال الصيف الماضي تصاعدًا لافتًا في النفوذ التركي والإيطالي، كلاعبين خارجيين داعمين لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، تجسّد في اللقاء الذي جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني برئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة في إسطنبول خلال أغسطس/آب الماضي. غير أن ما ميّز تلك المرحلة لم يكن فقط هذا اللقاء الثلاثي، بل التحول الأعمق في مقاربة أنقرة وروما للملف الليبي نحو نموذج يشبه ما درجت عليه واشنطن في السنوات الأخيرة.
ففي الوقت الذي بدت فيه العاصمتان الأوروبيتان متحالفتين مع حكومة طرابلس، شهد الصيف أيضًا خطوات لافتة نحو الانفتاح على المعسكر الشرقي. ففي يونيو/حزيران، التقى وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي بصدام حفتر، نجل قائد “الجيش الوطني الليبي” خليفة حفتر، في إشارة إلى استعداد روما للتعامل المباشر مع شرق البلاد. وفي أغسطس/آب، أوفدت أنقرة رئيس جهاز استخباراتها إبراهيم قالن إلى بنغازي للقاء حفتر وعدد من قادة الجيش، في خطوة فسّرها مراقبون على أنها سعي تركي لتوسيع شبكة النفوذ لتشمل الطرفين.
ويبدو أن هذا التحرك المتوازن بين القوى المتنازعة يتم بتنسيق غير معلن مع الولايات المتحدة، التي كثّفت بدورها نشاطها الدبلوماسي في ليبيا مؤخرًا عبر كبير مستشاريها مسعد بولس، الذي زار طرابلس وبنغازي في يوليو/تموز الماضي، والتقى الدبيبة وعددًا من المسؤولين في الغرب والشرق، بمن فيهم خليفة حفتر وأبناؤه.
وبهذا التقارب الثلاثي بين واشنطن وأنقرة وروما، بات من الممكن توظيف الدبلوماسية المتوازنة مع الفصائل الليبية لتعزيز فرص الاستثمار والإصلاح، مستندة إلى رؤية ترى في “توحيد المؤسسات” مدخلًا أساسيًا للاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
ليبيا.. محور دائم للمصالح الدولية
لا تزال ليبيا تشكّل نقطة تماس حيوية للمصالح الأوروبية والأمريكية على حدّ سواء. فهي صاحبة أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في إفريقيا، كما تمثل مصدرًا رئيسيًا لعدم الاستقرار في جنوب المتوسط، وبوابة رئيسة للهجرة غير النظامية إلى أوروبا. ومنذ انقسامها عام 2014 إلى سلطتين متنازعتين في الشرق والغرب، ظلّت البلاد ساحة لتقاطع النفوذ الإقليمي والدولي.
تركز السياسة الأمريكية حاليًا على تثبيت الاستقرار عبر دعم استقلال المؤسسات السيادية مثل المؤسسة الوطنية للنفط والبنك المركزي الليبي، مع تشجيع خطوات التكامل الأمني. كما اتجهت واشنطن في الآونة الأخيرة، بقيادة بولس، إلى تعزيز الشراكات الاقتصادية، وفتح المجال أمام الشركات الأمريكية للدخول إلى السوق الليبية الواعدة.
أما روما، فتغلب على سياستها هواجس الهجرة والطاقة. فليبيا هي المحطة الأبرز على طريق الهجرة عبر المتوسط، كما تمثل مصدرًا مهمًا للغاز ومشروعات الطاقة التي تعتمد عليها إيطاليا لضمان أمنها الاقتصادي.
من جانبها، تنظر أنقرة إلى ليبيا بوصفها ساحة نفوذ اقتصادي وجيوسياسي؛ فوجودها العسكري هناك يمنحها ورقة ضغط، بينما تتيح عقود الإعمار والطاقة فرصًا تجارية ضخمة. ويعكس انفتاحها الأخير على شرق البلاد رغبتها في ترسيخ موطئ قدم لدى الطرفين المتنازعين.
توافق ثلاثي على نهج واشنطن
مع حلول سبتمبر/أيلول، بدا واضحًا أن القوى الثلاث – الولايات المتحدة وتركيا وإيطاليا – تتبنى نهجًا مشتركًا يقوم على المشاركة المتوازنة مع مختلف القوى الليبية، وهو النموذج الذي اعتمدته واشنطن في السنوات الأخيرة لتفادي الانحياز لطرف دون آخر.
فأي تسوية سياسية أو اقتصادية في ليبيا لا يمكن أن تنجح دون إشراك الفاعلين الأقوياء في الشرق والغرب معًا.
في أغسطس/آب، بحث بولس مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان سبل التعاون في ليبيا، ثم تكرّس التنسيق خلال زيارته إلى روما في سبتمبر/أيلول، حيث استضافه وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني لبحث قضايا الاستقرار والهجرة. وبعد أسبوع فقط، أعلنت واشنطن أن جهود بولس أسفرت عن لقاءات جمعت شخصيات مؤثرة من الجانبين، من بينها إبراهيم الدبيبة، مستشار رئيس الوزراء، وصدام حفتر، نائب قائد الجيش الوطني الليبي، في محاولة لتقريب المواقف ودفع عملية توحيد المؤسسات.
وفي 12 سبتمبر/أيلول، أُعلن في روما عن توقيع اتفاقية تعاون جديدة بين تركيا وإيطاليا، تهدف إلى “تعزيز استقرار ليبيا وازدهارها”، مع التركيز على جذب الاستثمارات وتكامل الأدوار الاقتصادية والأمنية.
الاقتصاد والأمن.. مساران متوازيان
أصبح من الواضح أن واشنطن وأنقرة وروما تربط بين الملفات الاقتصادية والأمنية في تعاملها مع ليبيا، حيث يجري الحديث عن مشاريع الطاقة والبنية التحتية والهجرة غير النظامية باعتبارها ركائز مشتركة للاستقرار.
فالتقديرات الغربية ترى أن الانتعاش التجاري لن يتحقق دون إصلاح أمني، وأن الأمن لن يستقر دون تحريك عجلة الاقتصاد.
ورغم اختلاف أولويات كل دولة، إلا أن الثلاثي يبدو متفقًا على إطار عام يرى في التكامل الاقتصادي وتوحيد المؤسسات الطريق الأمثل لتقويض الانقسامات السياسية وتعزيز السلام الدائم.
التحدي الأكبر
غير أن هذا الانسجام الدبلوماسي لا يخلو من تحديات. فالفساد المستشري والانتهاكات التي تمارسها الجماعات المسلحة لا تزال دون مساءلة، وإذا لم تُعالج جذور هذه الأزمات، فإن النشاط الدولي المتزايد – خاصة في مجالي التجارة والأمن – قد يكرّس الاختلالات بدلًا من إصلاحها.
وعلى الرغم من أن ليبيا لا تحتل موقعًا متقدمًا في سلّم أولويات واشنطن، إلا أن تأثيرها في صياغة السياسات الليبية ما زال ملموسًا، وهو ما ظهر في تبنّي قوى خارجية مؤثرة كتركيا وإيطاليا لنهجها المتوازن ذاته.
في نهاية المطاف، تذكّرنا التجربة الليبية بأن الدبلوماسية الأمريكية لا تزال قادرة على صياغة نتائج ملموسة في بيئة شرق أوسطية معقّدة ومتعددة الأقطاب.
فرانك تالبوت – كريم مزران – أتلانتك كانسل
اضف تعليق