على الرغم من الليلة الحزينة التى بكت فيها باريس سيدتها الحبيبة ومع كل ما شكله احتراق المبنى التاريخى من صدمة وذهول فى اوساط العالم غير أن تدراك اوروبا للحظة الانسانية الحرجة جاء ليبدو وكأن طاقة روحية فاضت من شقوق الكاتدرائية العتيقة بحجارتها البيضاء لتؤكد للبشرية ما ألهمته للغرب من مسارات التعاطى مع المواقف المؤلمة
إذ أن الأفئدة التى تقاطرت من كافة أنحاء العالم لتبكي نوتردام عسكت بما لايدع للشك منظومة القيم الغربية و الأوروبية بأبعادها الروحية والثقافية التى تقدس الحجر و تُعلي من قيمة البشر , فقد نهضت أوروبا على قلب رجل واحد بكل طوائفها من مسيحين ومسلمين , تلملم شتات الجرح الذى أصاب قلب باريس فى أحد أرقى نماذج الطراز المعماري لكاتدرائيات العصر القوطي . وانطلقت حملة عالمية لجمع تبرعات لإعادة بناء الكاتدرائية . وتعهد الكثيرون من جميع أنحاء العالم عبر مواقع لتواصل الاجتماعي بتقديم تبرعات وقدم فرانسوا هنري بينو الرئيس التنفيذي لمجموعة كيرينج المالكة لعلامات تجارية منها جوتشي وإيف سان لوران تبرعا بقيمة 100 مليون يورو (113 مليون دولار) كما أعلن الملياردير برنار أرنو المساهم الرئيسي في مجموعة إل.في.إم.إتش للسلع الفاخرة تبرعه بمبلغ 200 مليون يورو
محاولات إحياء نوترادم من تحت رماد الحريق, التى لم تتوقف عند جمع التبرعات والتى بلغت حتى الآن نحو 300 ميلون يورو ,فحسب , بل امتدت إلى تجاهل كل الأصوات التى استعدت نظرية المؤمراة بهدف التعبئة الشعبية والشحن العاطفى عبر الترويج إلى كون الحادث مدبراً , تكشف عن كيفية تعاطى الغرب مع المواقف العصيبة والتى لا تستند إلى التقليل من حجم الكارثة أو المبالغة فى تقدير الموقف وإنما تستند إلى فكرة التلاحم بهدف تجاوز اللحظة الحرجة والتركيز باتجاه واحد , استعداداً لإعادة البناء والنهوض بقوة مجدداً
حريق نوترادم يفتح الملف المسكوت عنه فى منطقتنا العربية فيما يتعلق باستنهاض أنفسنا وإعلاء قيمة الانسان والتراث والأهم من ذلك إبراز جوهر الدين بكل ما يحويه من قيم إنسانية من شأنها نشلنا من سُباتنا ورفعُ قيمةِ الانسان العربي لتعيد له ثقته بذاته إذ أن الأصوات التى انطلقت من ممثلى جماعات الإسلام السياسي , عقب الحريق وحاولت التقليل من حجم الصدمة كشفت الكثير من ضحالة قيم التسامح والعيش المشترك لدينا .
فمن منطلق موقعى كـصحفى ” فرنسى –مسلم” أرصد ردود الفعل من جانبنا كمسلمين إزاءالمواقف الدامية التى قد يتعرض لها الغرب والتى لاتخلو من الإدانه والشجب المزيلة بعبارات التبرير والتى تبدو نوعا من الترسيخ لفكرة محددة بكل السبل المتاحة مفادها أننا ضحية ,فسرعان مع نربط إداتنا لأى حادث فى الغرب بوقائع اضطهاد المسلمين فى بعض مناطق العالم
ثقافة التشفِّي والشماتة والتى عبرت عن نفسها بوضوح عبر الترويج على مواقع التواصل الاجتماعى بأن ثمة مساجد كثيرة أحرقت ومواقع موضوعة على قائمة التراث العالمي، طالها التدمير أيضا، لكنها لم تحظ بنفس الاهتمام العالمي الذي وجدته “نوتردام ” تؤشر إلى أننا أمام مشكلة حقيقة . إذ طالما نحن كمسلمين غير قادرين على الإدانة المطلقة والتعاطف الكامل مع الغيربغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين واعتناق الإخاء الإنساني الذى هوحقيقة راسخة بديننا الحنيف و ليس آداة للاستهلاك المحلي، سنظل ندور فى فلك الاضطهاد من جانب الغير مع أن الأمر لايزيد عن كونه تقصير من داخلنا ,لهذا يتعين علينا البحث عن موطن الداء والكف عن لعب دور الضحية واجتتاث بذور الكراهية لنقذف بكلمة شجب مطلقة فى وجه كل كل مخطئ ومعتد على حقوق الإنسان ايا كان عرقه أو دينه .
الأديان جميعها أتت لتعزز وتدعم المفهوم الإنساني والذي ينبغى أن نصونه دائماً في كياننا، نطوره ونسعى إلى عدم خدشه أو نقصانه فلا دين بلا إنسانية ,لذا فإن السبيل الوحيد لكى يحترم العالم إنسانيتك وقيمك وتراثك هو أن تحترم الجميع أيا كانت أفكارهم ومعتقداتهم ، أن تبحث عن الجوانب التي تربطك بالآخرين لا تلك التى تبعدك عنهم، أن تتوقف عن تصنيف الناس وفق دينهم وعرقهم وثقافتهم وانتمائهم، فالإنسانية ترتقى بنا من المشاحنة النفسية والكره إلى حالة السلام الداخلي، ومن ثم التقدير والاحترام المتبادل للجميع دون شرط أو قيد
اضف تعليق