منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، انصبّ تركيز تركيا على هدف محوري: “تسنين” سوريا. هذا التحوّل لم يكن يتعلق ببناء دولة مستقرة وشاملة تراعي التنوع الطائفي، بل بإعادة تشكيل هوية البلاد وفق رؤية ضيقة للإسلام السني، تعكسها الحكومة المؤقتة في دمشق بقيادة الجهادي السابق أحمد الشرع.
رغم الخطاب الرسمي، فإن الواقع يُظهر ممارسات إقصائية وعنيفة ضد الأقليات، وفي مقدمتها الطائفة الدرزية في محافظة السويداء، حيث صعّدت ميليشيات سنية هجماتها مؤخرًا، مستهدفة المدنيين والمقاتلين الدروز. انتشرت صور تُظهر رجالًا يُضربون علنًا، ومنازل تُداهم، وعمليات إذلال تضمنت حلق اللحى قسرًا، في محاولات لفرض معايير دينية متشددة. ردّت ميليشيات درزية بأعمال انتقامية عنيفة، في مشهد يشي بانهيار السلم الأهلي.
خلف هذه الهجمات منطق بسيط وواضح: الفاعلون يرون أنفسهم مجاهدين، ويعتبرون السيطرة على أراضي وأملاك وأرواح “الكفار” غنائم مشروعة في حرب دينية. هذه الأيديولوجيا لا تقتصر على الدروز، بل تُضمر عداءً مماثلًا للأكراد والعلويين والمسيحيين، وقد تغلغلت في أجهزة الدولة الجديدة، بما في ذلك الجيش والأمن.
وفي ردّها على أحداث السويداء، أرسلت حكومة الشرع قوات أمن لاستعادة النظام، لكن تلك القوات ليست جهات محايدة، بل ميليشيات جهادية، ولاؤها ليس للشعب السوري، بل لعقيدتها الطائفية. سُجّل سابقًا تورّطها في مجازر ضد المدنيين العلويين في فبراير/شباط وأبريل/نيسان 2025، ما أسفر عن مقتل المئات. ورغم التحذيرات المتكررة من خطورة هذا النهج، تواصل واشنطن دعمها للنظام الجديد، رغم فشله الواضح في حماية الأقليات أو الحد من نفوذ الجماعات المتشددة.
هذا الواقع يفسر سبب رفض الأكراد، بقيادة مظلوم عبدي وقوات سوريا الديمقراطية (SDF)، الاندماج الكامل في مشروع الدولة الجديدة. في مارس/آذار، وقّعت قوات SDF اتفاقية أولية للاندماج مع الجيش السوري الجديد، لكنهم واجهوا ضغوطًا أمريكية لاحقة، حيث انتقد المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، تردد الأكراد، قائلًا: “لمجرد أنهم كانوا شركاءنا ضد داعش لا يعني أننا مدينون لهم بدولة داخل دولة”.
بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية، فإن الاندماج الكامل يعني التخلي عن الحكم الذاتي وتسليم السلاح وترك المناطق الكردية عرضة للعنف ذاته الذي يهدد الدروز اليوم. وما زاد من قلقهم، أن الشرع سرعان ما كشف عن مسودة دستور تعرّف سوريا كجمهورية “عربية”، في تجاهل متعمد للهوية الكردية ورفض واضح لفكرة التعددية.
الاعتداءات على السويداء توقفت مؤقتًا فقط بعد أن شنت إسرائيل غارات جوية استهدفت وزارة الدفاع السورية في دمشق. سارع كل من أردوغان والشرع إلى إدانة الهجوم، حيث وصف أردوغان إسرائيل بأنها “دولة إرهابية مدللة وجشعة”، فيما لوّحت وزارة الدفاع التركية باستعدادها للتدخل “إذا طلبت السلطات السورية ذلك”. هذا التوتر يعكس تصاعدًا محتملاً في الصراع، لا سيما أن الأكراد أبدوا تأييدًا ضمنيًا للتدخل الإسرائيلي.
كل ذلك يُظهر هشاشة النظام الجديد. ففكرة “الوحدة الوطنية” التي يروج لها الشرع تتهاوى سريعًا أمام الواقع الطائفي المتشدد. الاعتقاد بأن الجهاديين يمكن أن يتحوّلوا فجأة إلى رجال دولة، كان وهماً خطيرًا. أما قرارات واشنطن، كرفع العقوبات عن النظام الجديد، وشطب هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، فقد بدت أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة.
سقوط الأسد لم يأتِ عبر مسار ديمقراطي، بل على أيدي ميليشيات ذات روابط بتنظيمات مثل القاعدة وداعش. ولم يَعِد ذلك بمستقبل أكثر إشراقًا للشعب السوري، بقدر ما فتح الباب أمام فوضى جديدة، تقودها أيديولوجيات إقصائية وعداء طائفي.
ما تحتاجه سوريا حقًا ليس بديلاً استبداديًا جديدًا، بل سلطة انتقالية مدعومة دوليًا، تضع أسس دولة تعددية تحترم مكونات المجتمع كافة. على الولايات المتحدة وأوروبا التحرّك بسرعة، لإعادة بناء إطار حقيقي للحكم في دمشق، لا يُقصي أحدًا ولا يُعيد إنتاج الكارثة تحت مسميات مختلفة.
المصدر: سنان سيدي – ناشيوانال انترست









اضف تعليق