هذه المقالة هي عبارة عن مداخلة ألقاها فريدريك هوف – مدير مركز رفيق الحريري – أمام المؤتمر السنوي السابع عشر لمؤسسة هنريك بول Heinrich Bӧll Foundation الألمانية.
يشرفني كثيراً افتتاح جلستنا هذا الصباح، والتي يتركز موضوعها على أوروبا والفوضى العالمية الجديدة، وبما إنني أمثل المجلس الأطلنطي، فإنني أميل بشدة لإضافة وصف “أميركا الشمالية” إلى “أوروبا” في عنوان جلستنا.
في الوقت الذي نعاني فيه مع ديناميكيات الصراع في الشرق الأوسط، يواجه الشركاء عبر الأطلنطي نفس الخيار الذي واجه به بنيامين فرانكلين زملائه الموقعين على الإعلان الأميركي للاستقلال: لنبقى معا، أو نتفرق.
وقد عمل المجلس الأطلنطي ومركزه رفيق الحريري للشرق الأوسط، والذي أُديره أنا الآن، جاهداً لأكثر من عام مع مجموعة عمل استراتيجية الشرق الأوسط على هذا الموضوع. وتحت قيادة كل من مادلين أولبرايت وستيفين هادلي، يعمل هذا الكيان غير الحزبي مع الشركاء الإقليميين على وضع استراتيجية عبر أطلنطية للتأثير بالإيجاب على توجه هذه المنطقة المضطربة. وأود أن أُحثكم على إيلاء الاهتمام لهذه المبادرة، من خلال زيارة الموقع الإلكتروني للمجلس الأطلنطي بشكل دوري.
تمر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأزمة شرعية سياسية، فمع استثناءات نادرة لبعض دول هذه المنطقة، لا يوجد توافق داخلي على القواعد التي تحكم الحياة السياسية. ويُعرف هذا الغياب للتوافق بعدم الشرعية. وينتج عنه عدم استقرار، ويساعد على ضعف الأداء الحكومي، ويؤدي إلى فشل الدولة والحرب الأهلية. فحيثما توجد الشرعية، يمكن للاستقرار والمنافسة السياسية القوية التعايش معاً. وحيثما تغيب الشرعية، ينشأ الفراغ السياسي. ويشغل حالياً تنظيم داعش فراغات الشرعية السياسية في العراق وسوريا وليبيا. بل ويهدد بالانتشار في أماكن أخرى. ومنذ حوالي 400 عام، كان مصدر الشرعية السياسية في معظم مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو السلطان- الخليفة الذي كان يحكم الإمبراطورية العثمانية.
في الواقع، وبعد مرور نحو تسعين عاماً على سقوط الإمبراطورية، ظل السؤال عن مصدر الشرعية السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مفتوحاً ومثيراً للجدل. هل كان حكماً استعماريا؟ قومية عربية؟ كاريزما سياسية؟ إسلام سياسي؟ أم حق إلهي للملوك؟ في عام 2011، تظاهر الشباب العربي في القاهرة وتونس، بينما حارب آخرون الاستبداد في ليبيا واليمن وسوريا، وقد بدا هذا وكأنهم يقدمون إجابة على السؤال المتعلق بالمصدر الرئيسي للشرعية. وكانت إجابتهم أن الشرعية تُستمد من إرادة المحكومين، وأن هذه الإرادة المفروضة عليهم بالإكراه من قبل ديكتاتور ليست بإرادة على الإطلاق، وأن نظام الحكم الذي لا يُبالي بحقوق وكرامة المواطنين يُعد – حسب التعريف – غير شرعي.
ولم يكن رد الفعل السلبي لبعض النخب السياسية في منطقة الشرق الأوسط تجاه “الربيع العربي” مثيراً للدهشة. وكانت أكثر ردود الأفعال هذه تطرفاً هو ما قام به نظام الأسد في سوريا، حيث ألحق العقاب بالجميع، وارتكب جرائم القتل الجماعي في محاولة للإبقاء على حكمه بالإكراه دون الإرادة الشعبية. وقد قام النظام السوري، تقريباً وبالحرف الواحد، بحرق وتدمير سوريا تماماً، وجعل معظم نصفها الشرقي مؤمناً لتنظيم داعش. وبالرغم من أن نظام الأسد هو الأبرز من حيث الوحشية، يعاني الربيع العربي منذ عام 2011 من العداء نحوه ومحاولات دفعه للوراء في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.
ويعد الشرق الأوسط اليوم أكثر اضطرابا واختلالا وعنفاً وخطورة من أي وقت مضى في الذاكرة الحديثة. فقد قُتل في هذه الحرب الأهلية بالمنطقة أكثر من خمسمائة وأربعين ألفاً وأُصيب أكثر من مليوني شخص. بينما شُردت ملايين أخرى من البشر، في أسوأ أزمة للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. ومن ثلاثة وعشرين مليون مواطن وفقاً للتعداد السكاني بسوريا قبل الحرب، فقد نزح نصف هذا العدد تقريباً. وتقدر الأمم المتحدة أعداد النازحين في المنطقة نتيجة الحرب الأهلية بـ 17.8 مليون نازح.
ودفعت البلدان التي تشهد صراعات على حدودها ثمنا غالياً. فقد عززت الحرب الأهلية في سوريا من الانقسامات الطائفية في لبنان، وجددت التوترات في تركيا حيث وجود الأقلية الكردية. ومع توافر مساحة داخل سوريا للمتطرفين، ساعد ذلك على تجدد الصراع في العراق، وتقويض سنوات من الجهد لتحقيق استقرار في هذا البلد. وقد أصبحت الأردن في حالة يرثى لها حيث تعتمد اعتماداً كبيراً على المساعدات العسكرية والمالية الخارجية.
وقد تحملت البلدان المجاورة لسوريا العبء الهائل للاجئين. حيث يقيم في تركيا الآن ما يُقدر بنحو 2.7 مليون لاجئ، بينما يقيم حوالي مليون لاجئ في لبنان، ونحو 650 ألفاً آخرين في الأردن. وبالرغم من المساعدة الدولية، تواجه هذه الدول تحديات سياسية وتقنية صعبة بسبب هذا العدد الهائل من اللاجئين، فهي تحاول استيعاب وإطعام وتسكين وتعليم كل هؤلاء.
وعلاوة على ذلك، كان للاضطراب في المنطقة عواقب أبعد من هذا، حيث يتوجه المزيد والمزيد من السوريين وغيرهم شمالاً إلى أوروبا للبحث عن مستقبل لهم. بدءاً من عام 2015، تدفق أكثر من مليون نازح سوري وعراقي وليبي وآخرين نحو الشمال باحثين عن ملجأٍ وفرصة. وذلك في تحرك بشري هائل لم تكن أوروبا مستعدة له بعد. وقد ساعد تدفق اللاجئين على إرباك الاتحاد الأوروبي المضطرب من الأساس. وكان لهذا تأثيراً مؤسفاً على الخطاب السياسي لهذه الدول الممتدة على جانبي الأطلنطي.
ويعد بناء أنظمة سياسية تعكس توافقاً شعبياً حراً وقوياً بمثابة مهمة تقع على عاتق شعوب منطقة الشرق الأوسط. لا شك في أنه من أول هذه المنطقة إلى آخرها، يوجد مطلباً متصاعداً نحو موافقة المحكومين. ولا شك من أن بداخل النخب السياسية في دول المنطقة يوجد اهتماما متزايداً بتعزيز إرادة المحكومين كسبيل للشرعية السياسية. ومما لا شك فيه أنه على هؤلاء القادة الراغبين في فتح الطريق أمام إرادة المحكومين تقديم الخدمات الحكومية في نفس الوقت بطريقة تشجع المواطنين على التصديق بأن نظام الدولة يستطيع حمايتهم وإتاحة الفرص الاقتصادية لهم على حدٍ سواء. فالأنظمة التي لا تستطيع توفير أساسيات الأمن والتقدم الاقتصادي، ليس لديها أمل يُذكر في التأسيس لإرادة شعبية حرة.
ولا يستطيع المجتمع عبر الأطلنطي فرض تطوير الحكم الشرعي في منطقة الشرق الأوسط بالقوة. ولكن هل يمكنه المساعدة في ذلك بطرق مجدية؟ هل يمكنه تشجيع النخب السياسية على السعي نحو شرعية منظمة. هل يمكنه مساعدة الشباب فى جعل آرائهم مؤثرة في السياقات الواسعة للإرادة الشعبية للمحكومين وللنهوض الاقتصادي؟ وهل يمكنها تنظيم مساعدة فعالة لتلك الدول التي تبذل فيها النخب السياسية الإصلاحية جهوداً جادة لبناء أنظمة تمثل شرعية حقيقية؟
ويبدو لي أن المجتمع عبر الأطلنطي ليس لديه خيار حقيقي سوى محاولة تعزيز تطوير الشرعية. ولنكن متأكدين من أننا غير قادرين على القيام بذلك بدون الشركاء الإقليميين، وبدون قادة على استعداد للمخاطرة من أجل تحقيق الصالح العام، كما حدث في تونس. وبالنسبة لنا، فإن فك الارتباط ليس خيارا. والأوروبيون يدركون هذا تماماً. وسوف يدرك الساسة الأميركيون المنجذبون إلى فكرة الانعزال عن قضايا الشرق الأوسط – إذا لم يكونوا قد أدركوا بالفعل – أن أميركا الشمالية لن تكون بمنأى عن تبعات زمته أأأأزمة الشرعية في الشرق الأوسط. ولا يستطيع الأميركيون تحصين أنفسهم من أنواع الاعتداء التي وقعت في كل من باريس وبروكسل.
اضف تعليق