تقرير: هبة المنسي
الرياض تغلق أبوابها أمام برلين , فالعلاقات التى اعترتها نيران التوتر وظلت تحت سياج من الكتمان طلية الأشهر الماضية تناولتها وسائل الإعلام علانية على خلفية إصدار أمر من ولى العهد السعودى يقضى باستبعاد الشركات الألمانية من المناقصات الحكومية بالمملكة .
الحرب التجارية التي تقودها السعودية ضد برلين ,على حد وصف مجلة”دير شبيغل” تحمل إشارات على استياء المملكة وولى العهد محمد بن سلمان من “السياسة الاستفزازية الألمانية فى الشرق الأوسط ” والتى بلغت منتهاها مع تمسك الأخيرة بالاتفاق النووى حيث صرح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بعد أن أجرى مشاورات مكثفة مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي يوم الثلاثاء الماضي: “إننا في ألمانيا، وأيضًا في أوروبا، مصممون على المساهمة بشكل فعال للحفاظ على الاتفاق النووي مع العمل في نفس الوقت على ترويض طهران”.
تشبث ألمانيا بالاتفاق النووى الموقع مع إيران فى عام 2015 وموقفها المناهض للانسحاب الأمريكي من خطة العمل المشتركة كان بمثابة القشة التى قصمت ظهر العلاقات الألمانية السعودية وأسهمت فى تأجيج الخلافات بين الجانبين لاسيما بعد اللقاء المشترك الذى جمع أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ وتمخض عن إعلان تأييدهما لاستمرار الاتفاق النووي, متجاهلة بذلك كل الأدلة التي توافرت للمجتمع الدولي عن سعي طهران لامتلاك السلاح النووي.
الاستفزازات الألمانية بدأت قبل نحو ستة أشهر حين اتهم وزير الخارجية الألماني السابق السعودية بـ انتهاج “سياسة المغامرة في الشرق الأوسط” الأمر الذي تسبب في قرار الرياض بسحب سفيرها من برلين واستمر الوضع رغم تغيير وزير الخارجية الألماني . كما اتخذ التوتر مساراً أكثر عمقاً مع استثناء ولي العهد السعودي ألمانيا من أول جولة خارجية قام بها إلى أوروبا
أحد أسباب الغضب السعودي تعود إلى سبتمبر من العام الماضي فبالرغم من أن المملكة تعد ثالث أكبر مستورد للأسلحة الألمانية وتُشكل أجهزة سلاح الجو 90% من صادرات ألمانيا من السلاح للسعودية، والتي تشمل قطع غيار مقاتلات، وطائرات هليكوبتر، وطائرات، وتجهيزات التزود بالوقود جوا، بالإضافة إلى زوارق الاستطلاع والعربات البرية المصفحة، والطائرات بدون طيار.غير أن إعلان شركة صناعة الأسلحة الألمانية «هكلر آند كوخ» وقف تصدير الأسلحة الألمانية لعدد من الدول على رأسها السعودية سطر بعناية أولى فصول المواجهة بين الدولتين .
كما أن الانحياز الألماني لقطر وموقفها من الأزمة الخليجية أثار حفيظة المملكة حيث أعلنت برلين مراراً على لسان وزير خارجيتها معارضتها للسياسات الخليجية بشأن الدوحة وطالبت بفك الحصار فضلا عن أن استقبالها تميم بن حمد آل ثاني بحفاوة بالغة قد استهلك الكثير من رصيد الصبر السعودي.
ويبدو ولي العهد السعودي واثقا من تعويض الغياب الألماني إذ أن انتهاج المملكة سياسية الصمت إزاء ما أوردته التقارير الغريبة وعدم نفيها لتلك الأخبار يشير إلى إصرارها على التصعيد خاصة وأن الخلافات ليست وليدة اليوم ,فقد سبق وصرح عضو بمجلس الشورى السعودي أنه لا يستبعد أن تلجأ المملكة لكل الوسائل المشروعة لتحقيق مصالحها ومنها العقوبات الاقتصادية.
ولأن الأرقام لا تكذب ولا تتجمل فإن خسائر الاقتصاد الألمانى ساطعة, إذ تعد السعودية شريكاً تجارياً مهماً لبرلين ، فقد استوردت منها ما يصل قيمته إلى 7.7 مليار دولار في عام 2017، وفقاً لمكتب الإحصاءات الألماني. ومن المرجح أن يقطع القرار أيضاً شريان الشركات الألمانية الناشطة بالسوق السعودية مثل “سيمنس” و”باير” و”بورينجر إنجلهايم” وكذلك “دايملر” لصناعة السيارات وقد فازت الأخيرة مؤخراً بطلبية من (سابتكو)، الشركة السعودية للنقل الجماعي، لشراء 600 حافلة من طراز مرسيدس-بنز سيتارو. كما حصلت شركة “سيمنس” العام الماضي على طلبية قيمتها نحو 400 مليون دولار لتسليم 5 توربينات غاز لمحطة مزدوجة لإنتاج الكهرباء والبخار يجري تشييدها في السعودية. كما أن صنّاع القرار في ألمانيا والسعودية كانوا يتحدثون قبل سنوات عن إمكانية مضاعفة التبادل التجاري الألماني السعودي في غضون أقل من 10 سنوات ليصل إلى 20 مليار يورو سنويا.
وبغض النظر عن الخطوط السياسة العريضة والمعلنة من الجانب الأوروبى بقيادة ألمانيا والتى تتمثل فى أن المسار الحالي قد يرفع من مخاطر حدوث سباق تسلح نووي، وزيادة في التصعيد العسكري غير أن للأمر زاوية أخرى لا يمكن إغفالها إذ تعمد برلين إلى الحفاظ على مصالح شركاتها في إيران حيث أن لدى الأولى نحو 120 شركة ألمانية تدير عملياتها بشكل مباشر من طهران علاوة على وجود ما يزيد عن عشرة آلاف شركة ألمانية أخرى تستثمر هناك.كما ارتفعت صادرات البضائع الألمانية إلى إيران العام الماضي بنحو 400 مليون يورو إلى نحو 3 مليارات يورو (3.57 مليار دولار) بما يزيد قليلا عن 0.2 بالمئة من مجمل الصادرات الألمانية.
النزعات الألمانية باعتبارها صاحبة التأثير الأكبر أوروبياً ,لن تأتى أكلها فى المستقبل المنظور لأن الدول الأوروبية فى كل الأحوال إذا ما خيرت بين الولايات المتحدة وايران فان كفة ترامب سترجح بكل تأكيد .وحمى الانسحابات التى اجتاحت الشركات الأوروبية ودفعتها إلى مغادرة إيران تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن البراجماتية الاقتصادية ستقود التبدلات فى الموقف الأوروبي وأن محاولات طهران لشق التحالف بين أوروبا والولايات المتحدة ستتبخر عما قريب ,فالعلاقات الإيرانية الألمانية التي اتسمت بالدفء طوال العقود الماضية لن تتحمل جليد الاقتصاد .
الحماس الألماني للحفاظ على الاتفاق النووي جعلها تخفق في التعاطي معه بشكل يضمن لها الحفاظ على مصالحها مع دول الخليج كما أنها لم تستطع قراءة نقاط الخلاف الرئيسية بالاتفاق النووى من وجهة نظر السعودية والتي تتبلور في تمدد طهران بالشرق الأوسط وعبثها المستمر فى ملفات تتعلق بالأمن القومي السعودي والخليجي . لذلك فإن سحب السعودية برلين إلى خانة الخصوم يأتى فى إطار دفاع الأخيرة المستميت عن النظام الإيرانى دون تقديم أي مبادرات ملموسة للحد من مخططاتها في ضرب الاستقرار بالمنطقة.
والقرار السعودي به إشارات جلية على أن المملكة تتبنى نهجاً جديداً فى سياستها الخارجية ,فخطاب الرياض الذى كان يميل لتفادى الصدام والإفصاح عن مواقفه بشكل علني ,اختار هذه المرة “اللعب على المكشوف ” حيث تعمل السعودية على استثمار وزنها الاقتصادي فى خلق مناخ مناهض لسياسات طهران وقهرها بقبضة حديدية ,لاسيما وأن التقلبات الراهنة بالشرق الأوسط قد قسمت المنطقة إلى معسكرين للنفوذ –والنفوذ المضاد ,لذا يبدو الأمل ضئيلاً في حدوث انفراجة دبلوماسية و بالتالى لا سبيل لحدوث مصالحة دون التصعيد وتفاقم الاضطرابات في الشرق الأوسط والتى قد تصل إلى إعلان الحرب .









اضف تعليق