طوال تاريخه ..كان لبنان أقرب إلى رقعة شطرنج يتناوب على أطرافها اللاعبون الدوليون يحركون قطعه كيفما شاءوا فى تحالفات ضمنية لاتأخذ فى اعتبارها سيادة الوطن أو مصلحة مواطنيه .
حركة التاريخ المعاصر وموجاته المتلاحقة تكشف عن سقوط لبنان ضمن لعبة التوزانات واستقطاباتها الإقليمية والدولية .ففى عام 1989 كان الجنرال ميشيل عون ايقونة الشارع اللبنانى حيث خاض حرباً ضد االتواجد السوري في لبنان. إلا أن تلك الحرب كلفته ثمناً باهظاً, فقد حدث نوع من التوافق الدولى حينها على بقاء الجيش السورى داخل لبنان وقضى الجنرال نحو 15 عاماً فى منفاه بباريس قبل أن يعود لتنقلب خارطة تحالفاته وبعدما كان من منتقدي سياسة ودور حزب الله في لبنان، وقع اتفاقاً مع الحزب، الذي لطالما انتقد ساسته وتبعيته لإيران.
نفس الأمر تكرر فى عام 2005 عقب اغتيال رفيق الحريرى , حين سطع نجم سعد الحريري زعيما سياسيا بعدما قاد فريق “قوى 14 آذار” المعادي لسوريا إلى فوز كبير و انحاز لصوت الشارع اللبنانى ساعده في ذلك التعاطف معه بعد مقتل والده ,و قد أحدث ذلك في حينه، انقلابا في المشهد السياسي اللبناني الذي كانت دمشق اللاعب الأكثر نفوذا فيه على مدى عقود. بيد أن رياح التفاهمات الدولية أتت بما لاتشتهى سفن لبنان , فمع التقدم بالملف النووى الإيرانى مالت كفة المعادلة الدولية إلى جانب حزب الله واضطر الحريرى إلى تبديل موقفه وفقا لمقتضيات الواقعية السياسية .
وإذا ما تطلعنا لما يدور فى الساحة السورية اليوم من تفاهمات بين موسكو وأنقرة وطهران فضلاً عن تراجع الدور الأميركى سنجد أن معطيات الواقع تتناقض مع مايروج له حزب الله , وأن القوى الدولية تتوافق فيما بينها ,ربما للمرة الثالثة , على بقاء الوضع على ما هو عليه فى لبنان وألا يكون خالياً من النفوذ السوري وهذا ما ينعكس بوضوح من خلال تغطية الإعلام الغربى الهادئة للتظاهرات والدعم الموجه من قبل السفارات الأجنبية للحكومة الحالية .
إذ يبدو أن أوروبا تسير على نفس النهج القديم فيما يتعلق بالوضع فى لبنان وهو ما يمكن استشعاره من خلال نصائح ماكرون للحريرى حيث شكل الرئيس الفرنسى دافعاً رئيسياً فى موافقة الحريرى على الشراكة أو التحالف مع نصر الله وهو الأمر الذى لايمكن قراءاته بمعزل عن مساعى باريس للعب دور الوسيط فى الملف النووي الإيراني .
اليوم ,وفى ظل خلو الحراك الاحتجاجى من كافة الرموز السياسية الفاعلة ,يجد الشارع اللبنانى نفسه بمواجهة التحديات التاريخية ذاتها والمعضلة لا تزال تكمن في إيجاد آلية تمثل كل اللبنانيين .
السؤال الآن ..كيف يمكن للشارع اللبنانى أن يصنع بمفرده فارقاً فى المشهد الراهن والذى يتكرر للمرة الثالثة ؟ كيف يمكن للبنان أن يتجاوز تحدياته القديمة – المتجددة ؟
خارطة الطريق يجب أن يصيغ مفرادتها الشارع اللبنانى نفسه كى يتمكن من القفز على عوائق التاريخ بتعقيداته الدولية والإقليمية , إذ أن اشكالية لبنان دائماً وأبداً, فى أنها حين تبلغ تلك اللحظة الفاصلة تضيع الأهداف على وقع الانقاسمات بين اليمين واليسار والتجييش الطائفي والمذهبى .
فقه الضرورة ومستجدات الوضع الراهن تقتضى توحيد الأهداف والقفز فوق حواجز المطالب الفئوية لاسيما وان اللبنانيين أنفسهم قد وضعوا مسألة الطائفية خلف ظهورهم حين نزلوا إلى الشارع ولايمكن لأحد أن يستنتج إلى أى تيار ينتمى من يقف الى جواره , وطالت الانتقادات كافة أطياف النخبة الحاكمة وقد جاءت بعضها من من جماعات وتيارات محسوبة على الطبقة الحاكمة لذا لابد وأن يقتنع كافة أطراف المعادلة بالتنازل عن المطالب التى تعبر عن فصيل أو تيار سياسي بعينه في مقابل الأهداف المؤسساتية . يجب أن نمضى نحو بناء دولة المؤسسات وليس التيارات , أن ننحاز إلى ماتحتاج إله الدولة وليس الطوائف . بمعنى آخر ليس من المفترض أن ينجرف الشارع مع تيارالأغراض السياسية بل يتعين عليه الالتفات إلى مأسسة الدولة التى تكفل الحرية والمساواة لكافة طوائفها .
أما بالنسبةلأولئك الذين يحاولون الانتقاص أو التقليل من قوة الحشود فى لبنان بسبب الاحتفالات , عليهم قراءة التاريخ واستعياب دورسه جيداً , فطالما كانت الموسيقى والغناء وسيلة لرفض وضع سياسي معين , وقد استخدمها لويس الرابع عشر والذى لقب بالملك الشمس لاهتمامه بالفنون والآداب كآداة لتوصيل رسائله لجموع الشعب الفرنسي ولتثبيت حكمه بمواجهة التيارات المعارضة , لهذا فإن أجواء الاحتفالات وحلقات الرقص أثناء المظاهرات فى لبنان لاتزيد عن كونها رسالة تحوى كل معانى الرفض لرموز الطبقة الحاكمة .
بغض النظر عن التفاصيل الكثيرة بالمشهد التظاهرى فى لبنان ,لابد من الوقوف على حقيقة واحدة وهى رفض جموع الشعب للنخبة الحاكمة ,هنا لابد من التركيز على الهدف الرئيسي وعدم الاستغراق أو التشتت فى الجزيئات الصغيرة . إذ ينبغى الإسراع إلى وضع خارطة او استراتيجية للمرحلة المقبلة خاصة بعد رفض الشارع لورقة الإصلاحات التى قدمها الحريرى . وأنا لاأرى أى صعوبة فى تحقيق ذلك مع دعم الجيش للمتظاهرين , لهذا تبقى المعادلة الصعبة والخطيرة هى : كيف نضمن استمرار انحياز الجيش إلى جانب قوى الشعب لاسيما وأن قوى الأمر الواقع تراهن على عامل الوقت وتسرب الشعور بالفتور إلى صفوف المحتجين ؟
الإجابة ببساطة.. تتخلص فى سرعة التحرك وتوحيد الأهداف تحت شعار :نعم لدولة المؤسسات.. لا التيارات
اضف تعليق