عواصف التغيير تلف المشهد الإيراني , إذ أن كل الشواهد تؤشر إلى أنها قادمة لا محالة , في ظل العقوبات الأميركية وتزايد وتيرة الاحتجاجات على وقع الانهيار الاقتصادي لكن ثمة تحولاً جذرياً قد يطرأ على الساحة ,تصنعه الأقدار, بوفاة المرشد الأعلى خامنئي والذي قد يفضي انسحابه القسري إلى إحداث فارق نوعي بنظام طهران .
شتاء الأسد القاتل …فعلى مدار عقد من الزمان وغيوم المرض تلاحق “آية الله” فى عرينه منذرة بقدوم عواصف الموت وكأن شتاء واحداً لا يكفى كي يدخل ظل الرب في سكون أبدى ..ففي السادس عشر من يوليو الماضي أتم المرشد الأعلى للثورة عامه التاسع والسبعين ومنذ عشر سنوات والشائعات المتداولة بشأن تدهور حالته الصحية ومعاناته من مرض السرطان تثير حفيظة التكهنات المستمرة حول من سيخلفه؟. خاصة وأن رجل الملالى القوى مصاب بسرطان البروستاتا في المرحلة الرابعة، ويعتقد الخبراء أن أمامه أشهراً قليلة ليعيشها، وهو أمر قد يُدخل إيران في أزمة حقيقية لاسيما مع الضغوط الأميركية لتغيير سلوك النظام هناك .
خامنئى الذي لم يحصل على لقب آية الله العظمى نظرا لتواضع مستوى تعليمه الديني فهو بالرتبة المتوسطة كرجل دين يشغل أهم منصب في إيران منذ أكثر من 27 عاماً عقب وفاة المرشد الأعلى السابق آية الله الخميني ,الأب المؤسّس للثورة الإسلامية عام 1989. عملية تنصيبه تطلبت تغييرا بالقانون الإيراني، بما يسمح لرجال الدين من المرتبة الأدنى، بالتأهل لمنصب المرشد الأعلى وإلغاء منصب رئيس الوزراء وتركيز السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية. حيث أصدر الخمينى قبل وفاته مرسوما كان له أثر حاسم في ترقية خامنئي ليكون خلفا له، فقد بعث رسالة إلى علماء الدين، أشار فيها إلى أن شرط ” المرجعية” الوارد في الدستور يعد ملغياً في ما يتعلق باختيار المرشد الأعلى الجديد، ولفت إلى أن مصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية تستوجب أن يتم تصعيد شخصية دينية معتدلة، ذات مكانة رفيعة، سبق وأن دخلت معترك العمل السياسي ، لتكون قادرة على تعزيز أهداف النظام، وتحقيق طموحاته.
وفي جلسة مُسجّلة على شريط فيديو في مجلس الخبراء، ادعى هاشمي رافسنجاني المقرب من خامنئى أن الخميني قال له “لا تنظر إلى أبعد من خامنئي” في اختيار المرشد الأعلى المقبل، ليضمن بذلك المنصب الأعلى في البلاد لشريكه الأضعف حينها،وتم التصديق من مجلس الخبراء وفقا للرواية على اختيار خامنئي سريعا، ليسدل بذلك الستار على قضية اختيار الخليفة.
ويعود اختيار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية إلى ما يسمى “مجلس خبراء القيادة” بحسب المادة 107 من الدستور الإيراني، والمجلس هو الهيئة الدستورية الوحيدة التي تملك الصلاحيات لعزل المرشد بحسب المادة 111، دون أن يستخدم هذا الحق منذ تشكيله عام 1979 ومسألة اضطلاعه بمراقبة المرشد مجرد ديكور سياسي في المشهد ولم يحدث أن اعترض المجلس على أى قرار لخامنئي. . ويضم المجلس الآن 86 عضوا، يتم اختيارهم بالاستفتاء الشعبي المباشر لدورة واحدة كل ثماني سنوات.
تعاقب على رئاسة مجلس الخبراء رجال مقربون من آية الله خامنئي، ففى عام 1990 تولى رئاسته آية الله على مشكيني إمام وخطيب جمعة قم، وبعد وفاته 2007 خلفه الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني حتى 2011، حيث انتخب آية الله محمد رضا مهدوي كني، عقب خلافات عميقة بين المرشد ورافسنجاني بسبب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد الرئيس السابق، ومؤخرًا جرى انتخاب آية الله محمد يزدي رئيسًا لمجلس الخبراء بعد أن انسحب آية الله محمود شاهرودي من المنافسة، في الانتخابات الداخلية لرئاسة المجلس التي جاءت بعد وفاة رئيسه محمد رضا مهدوي كني في أكتوبر/ تشرين الأول 2014.
ويعتبر منصب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، أعلى المناصب في الدولة، ويمتلك صلاحيات بشؤون البلاد الداخلية والخارجية، إذ إن الدستور الإيراني ينص في المادة 110 على أن المرشد الأعلى مسؤول عن تعيين السياسات العليا للجمهورية، والإشراف على أدائها، وحل مشاكل نظام.الولي الفقيه بجانب كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، والمسؤول عن إعلان الحرب والسلام، هو المنوط به أيضا تعيين وعزل وقبول استقالة رئيس أركان الجيش، القائد الأعلى لقوات حرس الثورة الإسلامية، والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي.
يبدو أن الخمينى كان محقاً حين طالب بأن يكون المرشد الأعلى له باع فى السياسة , فـ”خامئنى” أثبت عبر مسيرته صحة نظرية الأب المؤسس وأنه يحظى بدهاء الساسة ومكر رجل الدين أكثر من المتوقع , حيث شرع تدريجيا في ترسيخ سلطته. وخلال الفترة الأولى لرئاسة حليفه رافسنجانى بين 1989 و1993 تعايش الرجلان بشكل سلمى ، إذ دعم خامنئي بحذر خطط رافسنجاني بعد الحرب لتحرير الاقتصاد ولكنه سرعان ما انقلب عليه وعمد إلى تحجيمه بفعل انحياز الحرس الثوري له بعد استيائه من دعم رافسنجاني لانتخاب الإصلاحي محمد خاتمي لدورتين متتاليتين كرئيس للبلاد. كما تمكن المرشد من تجريد علماء قم من استقلالهم المالي وكافأ مؤيديه بالمناصب السياسية والامتيازات المالية التي حرم منها منتقديه. وبذلك تمكّن خامنئي من إخضاع مجلس خبراء القيادة، الهيئة الوحيدة التي تمتلك سلطة الإشراف عليه وعزله اذا اقتضت الضرورة.
كون خامنئى كذلك جهاز مخابرات موازيا للجهاز التابع للحكومة المنتخبة حيث وضع الآلاف من ممثّليه المباشرين وغير المباشرين في كافة مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات الدينية فى قم ، بهدف إرسال التقارير إليه أو إلى مكتبه.كما نجح أيضا فى استمالة الحرس الثورى عبر تقديم حوافز مالية لقياداته وساعد الشركات التابعة له على شراء الشركات المملوكة للدولة بأسعار تقل عن أسعار السوق وأمر بتوجيه العقود الحكومية المربحة إليه.
الثعلب الإيرانى استخدم مبدأ التقية وحاول امتصاص غضب الغرب من البرنامج النووى بإصدار فتوى بتحريم استخدام سلاح الدمار الشامل .صدرت الفتوى شفوياً عام 2003 وبعد عامين أعلنتها الحكومة الإيرانية في بيان رسمي في اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا. ونشرت على الموقع الرسمي ل”خامنئي” واشار اليها المسئولون الكبار في تصريحاتهم. وعدها حسن روحاني أكبر ضمان لحركة إيران في مسار التكنولوجيا النووية السلمية. وبعد أربعة أيام من عقد اتفاقية شاملة حول البرنامج النووي JCPOA، ألقى خامنئي خطابا بعد صلاة عيد الفطر فى عام 2015 وأشار فيه إلى الفتوى وأكد أنّه لا يمكن لأي قوة الوقوف بوجه إيران إذا أرادت صناعة قنبلة ذرية لافتا إلى عدم سعيها لذلك ونظرا لتعارضها مع الشريعة الإسلامية .
من سيجلس على عرش خامنئى بعد أن وطد سلطاته وسيطر على كل مفاصل الدولة ؟ التسريبات فى طهران تلمح إلى تشكيل لجنة سرية لتعيين خليفة المرشد الحالي في مجلس خبراء القيادة كشف عنها الرئيس الإيراني الأسبق الراحل هاشمي رافسنجاني تلميحاً، ثم أكدها في فبراير قبل الماضي أحمد خاتمي , المتحدث باسم مجلس خبراء القيادة الإيرانية.وبينما كشف خاتمي أن هناك مرشحين بالفعل اختارتهم اللجنة، ولم يطلع عليهم سوى المرشد نفسه، تناقلت الأروقة السياسية في إيران أسماء عدد من الشخصيات السياسية والدينية .
إثر وفاة هاشمي رافسنجاني المفاجئة والذي كان الأقرب للمنصب ,يتنافس على كرسي المرشد الأعلى أربعة مرشحين أبرزهم من جيل الشباب حسن الخميني حفيد قائد الثورة الإيرانية، والذى يشار إليه بـ”الإمام” في إيران، يعود الدور الخاصّ لحسن الخميني إلى عدد من العوامل بالإرث الأبوي، فهو الابن الأكبر لأحمد الخميني الذي أصبح اليد اليمنى للمرشد الأعلى بالإضافة إلى أنه كان قد لعب دورًا محوريًا في إنجاح خامنئي ووصوله إلى الحكم جنبًا إلى جنب مع رافسنجاني.درس حسن الخميني في الحوزة العلمية بمدينة قم، وفي الوقت الحالي يعد واحد من المدرسين المهرة والأكثر شهرة داخل قم.
الخميني الصغير محسوب على التيار الإصلاحي، ، وتعرضت مواقفه للنقد والهجوم من قِبل شباب ينتمون لحزب الله إيران، الذين حاولوا منعه من الحديث في ذكرى وفاة جده، ورغم أن حسن الخميني أظهر في أكثر من موقف أنه ليس على نفس الصفحة مع التيار الأصولي وأعضاء مجلس الخبراء إلا أن لديه إرثًا واحترامًا داخل المجتمع ، ويحظى بقبول كبير من الأوساط الإصلاحية.
المرشح الثانى مجتبى خامنئي ابن المرشد الحالي ،وبالرغم من عدم وجود أدلة على انخراطه في العمل السياسي قبل عام 2005 الذى شهد أول حضور شبه علني أثناء دعمه لأحمدى نجاد في انتخابات الرئاسة إلا أن تقارير عدة تشير إلى الدور الذي يلعبه مجتبى في اختيار قادة الحرس الثوري الأمر الذي خلق له نفوذًا قويًا في أوساط المؤسسة العسكرية الإيرانية، وهو معروف دخل الأوساط الإيرانية بارتباطه بقوات “الباسيج” وأجهزة الاستخبارات,وعلى الرغم من افتقاده للمؤهلات الدينية والسياسية، إلا أنه يبقى في مقدمة الأسماء المطروحة نظراً لنفوذه المالي والأمني، وقد سعى خلال السنوات الأخيرة لتذليل العقبات التي تعترضه، وانخرط في الدروس الدينية سعيًا للوصول إلى مرتبة مجتهد.مجتبى عليه أن يتجاوز ثلاث عقبات، الحوزة العلمية في قم، وأتباع الإمام الخميني المشهورين. بالإضافة إلى ذلك، طبيعة النظام الثورية والمناهضة لعملية التوريث.
سطع نجم إبراهيم رئيسي منذ أن قام المرشد الإيراني في مارس 2016، بتعيينه مشرفا على مؤسسة “آستان قدس رضوي” وهي التي تشرف على إدارة ضريح الإمام الرضا الشهير في مدينة مشهد، والمؤسسات المالية الضخمة التابعة لها،ويرى متابعون أن ترشيح رئيسي لانتخابات الرئاسة كان بالونة اختبار لشعبيته كونه خليفة محتملا للمرشد، حيث إن خامنئي نفسه شغل منصب رئاسة الجمهورية الإيرانية لدورتين ( 1981 – 1989)
ورغم تواضع مؤهلاته بما يناسب المنصب إلا أن علاقته القوية بالمرشد والحرس الثوري ومحاولات تلمعيه عبر وسائل الإعلام الرسمية ، تشير إلى أن شيئا تحضيرات ما تدور خلف الكواليس ليكون المرشد الأعلى الثالث ..ففي العام الماضي زاره رئيس الحرس الثوري الإيراني في مدينة مشهد وبصحبته كبار الضباط لتقديم تقرير حول الأنشطة الإقليمية السرية للحرس.وظهر رئيسي في الصور التذكارية للزيارة وهو يجلس على كرسي بينما جلس ضيوفه على الأرض، في إظهار ملحوظ للاحترام .
الاسم الأقوى لخلافة خامنئي هو رئيس السلطة القضائية السابق آية الله محمود شاهرودي،، وعلى الرغم من أنه عراقي المولد والمنشأ، إلا أن خامنئي يثق به وعيّنه رئيسا للسلطة القضائية .كان الشاهرودي قد ترأس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عقب تأسيسه أوائل الثمانينيات. ثم عيّن في مجلس صيانة الدستور من قبل آية الله خامنئي، وتسلم رئاسة السلطة القضائية لعشر سنوات، وهو حاليا عضو في مجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور. ويعتبر أحد زعماء التيار اليميني المتشدد. كما يترأس مجلس تشخيص مصلحة النظام خلفا لرئيسه الراحل أكبر هاشمي رافسنجاني، وباقي أعضاء المجلس لمدة خمس سنوات. وفي حال فوزه فإن التداعيات السلبية التي ستفرزها إيران تجاه المنطقة ستتعاظم، فمشاركته بتشكيل “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” الذي تأسس بهدف ضرب الداخل العراقي وتصدير الثورة الإيرانية إليه وإلى باقي المنطقة، تعني أنه لا يؤمن بمبدأ تصدير الثورة فحسب، بل “مايسترو” فى ذلك.لكن تشير بعد التقارير السرية إلى إصابته بسرطان فى المخ مما قد يشكل عائقاً أمام وصوله للمنصب .
بعباءة رافسنجاني يبدو الرئيس حسن روحاني الرقم الأصعب فى خلافة المرشد فقد سعى للاستفادة من الأوضاع المضطربة من خلال تحويل التركيز مرة أخرى إلى الحرس الثوري وفرض نفسه كرقم لا يمكن تجاوزه في المعركة المقبلة على كرسي المرشد ومن آن لآخر تردد اسم حسن روحاني داخل أروقة الملالي في طهران كأحد الأسماء المرشحة لخلافة خامنئى يدعمه في ذلك شعبية وإن بدت متذبذبة لكنها مقبولة فضلاً عن علاقاته الواسعة بالقوى في الخارج ,وانتمائه إلى المجمع الديني برتبة حجة الإسلام لكن يظل العائق أمام بلوغه مرتبة المرشد خصومه من الحرس الثوري
من الصعب الاعتقاد بأن وريث المرشد الأعلى سيتم اختياره عن طريق “مجلس الخبراء” بمفرده لاسيما مع عدم وجود مدى زمنى دستوري يلزم باجتماع مجلس الخبراء الأمر الذي قد يسمح لمجموعات من الحرس الثوري بتعزيز سيطرتها فضلاً عن أنه حال اجتماع المجلس دون اتفاقه على مرشح واحد يمكن حينها إسناد القيادة إلى مجلس عوضا عن شخص بعينه مما سيزيد من تعقيد الأوضاع داخل أروقة الحكم فى طهران وقد يفضى إلى الاقتتال بينهم , فهناك ثلاثة أطراف تتصارع بالداخل الآن ,أحدهم يرفض نظام ولاية الفقيه ويطالب بإلغائه ويريد أن يكون المرشد منتخبا , والثاني يسعى لتطوير المنصب ليتم اختياره عبر مجلس شورى ويمثله التيار الإصلاحي , فيما يسعى المحافظون ورموز الدولة العميقة إلى بقاء الوضع على ما هو عليه .
حال لم يتم التوافق بين تلك التيارات على شخص يتابع نهج خامنئى فإن النزاعات المرتقبة بين مراكز القوى سواء الحرس الثوري أو الجيش الرسمي أو الاستخبارات الإيرانية قد تفضي إلى احتمالين لا ثالث لهما إما الفوضى أو الانقلاب العسكري بقيادة مجتبى خامنئى وشراكة قاسم سليمانى وهو السيناريو الكارثي لأنه يعنى استيلاء الحرس الثوري على السلطة بشكلٍ انتهازي وبالتالي نشوء ديكتاتورية أيديولوجية عسكرية،مدعومة بمليارات الدولارات وغير ملتزمة حتى بالضوابط المحدودة التي توفرها بقية أفرع النظام الإيراني اليوم.
احتمالات حدوث اضطرابات عقب وفاة المرشد سواء عن طريق تصعيد الاحتجاجات أو الاقتتال بين فصائل النظام الحالي تطرح تساؤلات حول ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة؟ هل واشنطن مستعدةٌ لإحداث تغيير إيجابي في النظام؟.هل هناك استراتيجية لاستقطاب بعض الفصائل، أو تحييد آخرين، أو القضاء على طموحات الحرس الثوري الإيراني بالكامل؟
مسارات واشنطن المحتملة ,حينها , يمكن أن تتشكل عبر تبنى نهجين , الأول : أن تقوم الولايات المتحدة بجمع شتات المعارضة الإيرانية فى الخارج إلى جانب الجالية الإيرانية الكبيرة التى تحتضنها ، من المثقفين والمتعلمين ، ودفعهما لإحداث تغيير حقيقي مع تقديم الدعم الضروري لهما من حيث التوجيه و التنظيم , فى حين يتمثل المسار الثاني في احتمال أن تقود أميركا تحالفًا أمميًا، وبمشاركة إسلامية وعربية لتحرير إيران وجعلها دولة ديمقراطية، تحكم ذاتها بانتخابات نزيهة متناغمة مع أمم العالم .
اضف تعليق