طلقات التهديد المتبادلة بين واشنطن وطهران تؤشر إلى أن الوقت قد حان لمحاسبة الملالي إذ يبدو أن خيار الحسم العسكري ليس ضمن أولويات البيت الأبيض وأنه يمضى قدما نحو تنفيذ خطة واقعية تتضمن تغيير النظام الإيراني برمته من خلال دعم الحركات الشعبية في الداخل دون تدخل عسكري.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية لم تعلن رسمياً أنّها تسعى إلى تغيير النظام الإيراني فى ظل حالة الانقسام السائدة داخل البيت الأبيض حيث يسعى البعض من خلال العقوبات إلى إعادة طهران إلى طاولة المفاوضات فيما يراهن جناح الصقور بزعامة بولتون على ضرورة تغيير النظام غير أن سعى واشنطن لإطلاق قناة تلفزيونية وإذاعة ناطقة باللغة الفارسية على مدار الأربع والعشرين ساعة، علاوة على أدوات رقمية ووسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الإيرانيين في إيران وفي أنحاء العالم يعكس رغبة حقيقة لدى صناع القرار فى إحداث فجوة بين الملالي والشعب هناك .
خطة واشنطن لتغيير نظام الحكم في إيران تتكشف خيوطها كذلك من خلال تتبع التحذيرات النارية للإدارة الأمريكية حيث هدد ، دونالد ترمب في تغريدة له عبر تويتر، الرئيس الإيراني حسن روحاني قائلا: “إياك أن تهدد الولايات المتحدة مرة أخرى وإلا ستواجه عواقب لم يواجهها سوى قلة عبر التاريخ”.وأضاف ترمب لروحاني: “لم نعد دولة تتهاون مع كلماتكم المختلة بشأن العنف والموت. احترسوا!”.وأكد ترمب عبر تويتر: “لن نقبل بأي تهديد للولايات المتحدة مجددا”.
كما أن خطاب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أول أمس أمام الجالية الإيرانية في الولايات المتحدة لحضها على دعم التحركات الاحتجاجية في إيران، يعكس أملا مستمرا لدى الإدارة الأميركية في حصول تغيير في النظام بعد خروج واشنطن من الاتفاق النووي. حيث أكد بومبيو دعمه للمحتجين في إيران، وقال “إن الأمر يرجع للإيرانيين لتحديد مسار بلادهم”، مشدداً على أن أميركا ستدعم صوت الشعب الإيراني الذي تم تجاهله لفترة طويلة.
وثمة ما يشير إلى التقاط قادة الملالي للمسارات الأمريكية وأن خروج الولايات المتحدة من “الاتفاق النووي” مع إيران، ليس أكثر من خطوة يقوم بها الصقور في إدارة دونالد ترامب لإسقاط النظام في طهران ,حيث أكد روحاني مخاطباً شعبه أن السياسات الرئيسية التي تتبعها واشنطن تجاه إيران هي “إسقاط النظام وتفكيك إيران والعقوبات”، فى حين حذر وزیر الخارجیة الإیراني، محمد جواد ظريف، الأسبوع الماضي من سقوط النظام وتفكيك إيران إذا ما فشل الاتفاق النووي. ريما يندرج تحذير السلطات “تفكيك إيران ” فى إطار تخويف الشعب ودفعه نحو تجاوز الانقسامات الداخلية وتنفيس الاحتقان الشعبي الناتج عن تدهور الوضع الاقتصادي بانتهاج خطاب معادى للولايات المتحدة لاسيما خطاب إيران الشعوبي والراديكالي، الذي يأتي على خلفية تعزز مشاعر العداء للسياسة الأميركية والغربية غالبا ما يلقى صدى واسعاً وتزداد نسبة مؤيديه مع استدعاء نظرية المؤامرة وتصدرها للمشهد
تصريحات بومبيو ليست الأولى من نوعها فقد سبقتها أخرى مشابهة للمستشار القانوني للرئيس الأمريكي وعمدة نيويورك السابق أمام مؤتمر المعارضة الإيرانية في واشنطن وفى اجتماعها الأخير فى باريس فى الـ30 من يونيو الماضي حيث قال رودي جولياني ، إن ترمب تحدث علناً عن رغبته في تغيير نظام الحكم في إيران، والانسحاب من الاتفاق النووي.مؤكداً أن الرئيس الأمريكي “مهتم بنفس القدر بتغيير النظام في إيران مثله مثل كل أولئك المجتمعين في هذا المؤتمر وان ذلك هو السبيل الوحيد للسلام في الشرق الأوسط “. واعداً الحضور بأن نهاية النظام الإيراني باتت قريبة، ومتوقعاً أن نظام طهران سيسقط خلال عام.
مختلف التصريحات بالتجمع المناهض للملالي والذي حضرته تنظيمات إيرانية معارضة في المنفى، إلى جانب عشرات الشخصيات الغربية والعربية المعارضة تشير إلى أن المعارضة الإيرانية تحظى حاليا ببعض نقاط القوة وهو ما عده مراقبون برغبة غربية جادة في إسقاط النظام الإيراني. فبعد افتتاح المؤتمر مباشرة، صعد إلى المنصة نحو 50 عمدة من فرنسا، وتحدثت باسمهم عمدة باريس آن هيدالغو، مؤكدة مساندتها المقاومة الإيرانية في سعيها لإسقاط النظام، “وإسقاط الدكتاتورية الدينية التي تزعزع الشرق الأوسط وعواصمنا الغربية بالإرهاب”. كما شارك أيضاَ الرئيس السابق للكونغرس الأميركي المستشار الاستراتيجي لترامب نيوت غينغريتش، الذي اعتبر أن الطريق الوحيد للأمان في المنطقة هو باستبدال الدكتاتورية بالديموقراطية، ويجب “أن يكون هذا هدفنا”، بحسب تعبيره.
مؤتمر المعارضة الإيرانية الذي حمل عنوان “إيران الحرة.. البديل”، وضم ممثلين من منظمة مجاهدي خلق والمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية ليس الفعالية الوحيدة التى يمكن من خلالها قراءة توجهات الإدارة الأمريكية إذ منح صعود جون بولتون كمستشار للأمن القومي قبلة الحياة لمنظمة مجاهدي خلق و يمثل وجوده فرصة ذهبية للمنظمة لتأكيد نفسها كلاعب محورى في السياسة الأمريكية وهو ما أعرب عنه مساعد في الكونغرس للسياسة الخارجية قائلاً إن “بولتون يميل إلى مجاهدين خلق…وسيكون لدى الجماعة وصول إلى البيت الأبيض على الأقل”.
ميول بلتون تتجلى في العلاقات الوطيدة التي تجمعه و المنظمة الإيرانية المعارضة حيث يلتقي بشكل شبه دائم بزعيمتها مريم رجوى ويحرص على حضور فعاليتها بانتظام و شارك العام الماضي فى مؤتمرها السنوي الذي عقد فى باريس، وألقي خطاباً حاداً ، قال فيه إن ” النظام الإيراني لن يرى عامه الـ 40، وقبل حلول عام 2019 سيحتفل مع مجاهدي خلق فى طهران بإسقاط النظام”، كما انضم في مارس من العام الماضي ,لتجمع لأنصار المنظمة في ألبانيا بمناسبة عيد النيروز
المحاولات الأمريكية لجمع شتات المعارضة الإيرانية تحسباً لأي حراك قادم تجاه إيران تتضح أيضاً من خلال زيادة الدعم المالي للمنظمة وعقد الكونجرس لقاءات مستمرة مع أعضاء مجاهدي خلق ، تضمن أحدها كلمة مسجلة لزعيمة المنظمة مريم رجوي من منزلها في فرنسا. وتتزامن مع ما كشفه إيدي كوهين الإعلامي الإسرائيلي والأكاديمي في “معهد بيجين-سادات” نقلا عما وصفه بالمصادر الاستخباراتية بأن الولايات المتحدة ستقود تحالفا أمميا وبمشاركة إسلامية وعربية لإسقاط نظام الملالي ولتحرير إيران وجعله دولة ديمقراطية شعبه يحكم ذاته بانتخابات نزيهة متناغماً مع أمم العالم. كما تنسجم مع رسالة وجهها نحو 20 مسئول أمريكي سابق في الأيام الأولى من حكم ترمب يدعونه فيها إلى ضرورة فتح قنوات اتصال و إقامة حوار مع المنظمة
الحوار مع مجاهدي خلق يمثل تحولاً جذريا بالسياسة الأمريكية ,إذ أن المنظمة المعارضة تم تصنيفها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية فى عهد كلينتون خلال الفترة من عام 1997 حتى 2012. وقادت الجماعة حملة مسلحة ضد شاه إيران المدعوم من الولايات المتحدة في السبعينات .كما ساهمت بدور مؤثر فى انتصار الثورة الإسلامية لكن سرعان ما دبت الخلافات بينها وبين الملالى حتى بلغت حد الاشتباك المسلح بعد عامين ونصف العام من الثورة . وتعد مجاهدو خلق جزءاً من ائتلاف واسع شامل يسمى بـ “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية” الذي يعمل كبرلمان إيراني في المنفى.
المنظمة التي يتزعمها مسعود رجوى أول من كشف فى عام 2002 عن وجود منشأة لإنتاج الوقود النووي فى إيران كما سربت فى عام 2008 معلومات حول المنشآت السرية بالبرنامج النووي من بينها موقع “فوردو” . واعلن المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في يوليو 2013 أن شبكة منظمة مجاهدي خلق داخل ايران حصلت على معلومات موثوقة حول وجود موقع جديد سري يحمل اسم “كنز الشرق “مخصص للبرنامج النووي بشمال طهران . وتشير تقارير إلى اضطلاع مجاهدي خلق بدور رئيسي فى حصول الموساد على 55 ألف وثيقة سرية متعلقة بالبرنامج النووى . فالصفعة الاستخبارىة التي كشف عن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن من الممكن تنفيذها دون تعاون وتنسيق مع شخصيات من مجاهدي خلق فالمنظمة لها أذرع في الداخل الإيرانى وقد دأبت على كشف معلومات حول برامج التسلح الإيرانية وإرسال تقارير بها للمنظمات والدول الغربية .
في كل الأحوال تبدو مجاهدو خلق بديلا سياسياً ملائماَ ,حيث تعد من أقوى حركات المعارضة الإيرانية ولها إطار تنظيمي كما ترتبط بشبكة واسعة من العلاقات فى الخارج وخاصة مع الدول الأوربية ,صحيح أنها لا تحظى بقبول واسع فى الشارع الإيراني بسبب انحيازها لصدام حسين أثناء الحرب العراقية الإيرانية غير أن تردى الأوضاع المعيشية وانتشار الفقر قد يشكل دافعاً للصفح وتجاوز أخطاء المنظمة لاسيما وانه لا فارق اليوم لدى جموع الشعب بين الشاه والولي الفقيه سوى العمامة
الداخل الإيراني يبدو مهيأً لاستقبال الرسائل الأمريكية لتصفيد الملالي إذ تحمل بنية النظام عوامل انهياره وانكسار جدار التقديس وحواجز الخوف تفتح ممرات الثورة فالهوة السحيقة بين النظام والشعب تزداد عمقا خاصة وأن الأخير ينظر للتيارات سواء المتشددة أو الإصلاحية باعتبارها وجهين لعملة واحدة ولائها المطلق للنظرية الخمينية .فالإيرانيون باتوا يدركون أنه رغم تصاعد الخلافات بين التيار الأصولي المحافظ بقيادة خامنئي والتيار المعتدل بقيادة روحاني، إلا أن كل طرف يعمل على ترجيح مصالحه الذاتية بغض النظر عن المصلحة الوطنية وحياة المواطن.
عجز الدولة عن التعاطي مع ملف الحركات الإثنية ومحاولة احتوائها يمثل نقطة ضعف محورية بالأمن القومي الإيراني وأحد المؤشرات الدالة على تداعى نظام الملالى إذ تضم الفسيفساء الإثنية مزيجا ً فريدأ من قوميات عدة غير فارسية أهمها والترك والكرد والعرب والتركمان واللور والجيلان. يشكلون نحو 60% من سكان إيران ورغم محاولات التفريس إلا أن تلك القوميات تحرت كل الإجراءات التي تكفل لها الحفاظ على هويتها وقادت انتفاضات عدة ضد التمييز والتهميش والحرمان الاقتصادي من جانب الفرس وصولاً إلى مطالبة بعضها بالانفصال مثل أذربيجان والأحواز العربية . الحراك الانفصالي الداخلى واتساع رقعة المعارضة فى الخارج المتمثلة فى حركة مجاهدي خلق، قد يؤدى حال ترتيب الأوراق والتنسيق بينهم إلى تحريك الشعب وانهيار الدولة الخمينية .
السعي الدائم للتمدد ومحاولات الانتشار الجيوسياسى رفع ميزانية الإنفاق الإيراني على ميليشياته وأذرعه الخارجية إلى 30 بليون دولار سنويا . فالتمويلات المتزايدة للجماعات المسلحة أرهقت خزانة الدولة والمظلات الدعائية أَضحت كالزبد فوق أمواج الفقر والبطالة ., وبينما تحيط أكواخ الصفيح بالعاصمة طهران يسيطر قادة الحرس الثورى على حوالي ثلث الاقتصاد ، ويملك رجال الدين الذين يمسكون زمام السلطة ثروات طائلة قدرتها بعض المصادر بأكثر من 900 مليار دولار, ويحصل الحرس الثوري الإيراني على أكثر من 12 مليار دولار سنويا .
التضخم الحاد بثروات رجال السلطة يقابله على الشاطئ الآخر ترد بالأوضاع المعيشية للسكان ويثير المزيد من سحب الدخان,فحسب تقديرات الحكومة فإن نحو 15 مليون شخص بواقع 40 بالمئة من الشعب الإيراني يقبع تحت خط الفقر المدقع، وما نسبته 25 بالمئة من الإيرانيين يسكنون في بيوت من الصفيح بسبب عدم استطاعتهم تأمين المال الكافي لدفع الإيجار.
السياسة الأمريكية الحالية تجاه إيران لا تتطلب شيئاً سوى إضافة المزيد من الزيت إلى منطقة مشتعلة أساساً. فجموع الشعب ليس بوسعها احتمال المزيد من العقوبات. ومع أن المعطيات تؤكد أن تغيير النظام الإيراني ليس بالسهولة المتخلية ، غير أن استراتيجية واشنطن بعيدة المدى , لبناء حكومة بعد الملالي. قد تكون السبيل الأسلم لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية والحد من تهديداتها الأمنية









اضف تعليق