شهدت ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 دوامات من الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية والانهيار المؤسسي، ما جعلها في أسفل قائمة أولويات واشنطن، تاركة الملف الليبي إلى حد كبير للأوروبيين. غير أن بروز اسم عبدالكريم مجق كمرشح لرئاسة الحكومة أعاد الأنظار إلى طرابلس وواشنطن معًا، في إشارة إلى محاولة كسر أنماط حكم الميليشيات والتدخلات الخارجية التي طغت على مرحلة ما بعد 2011.
على عكس قادة الميليشيات والوجوه العسكرية المهيمنة على المشهد السياسي الليبي، فإن مجق عالِم ذو مكانة دولية، اشتهر بدوره في تفكيك برنامج ليبيا النووي مطلع الألفية الثالثة، وهو المسار الذي اعتبر آنذاك قصة نجاح نادرة في ملف منع الانتشار النووي، ومنح مجق مصداقية واسعة خاصة لدى المسؤولين الأمريكيين.
اليوم، يبرز مجق كأحد أبرز المرشحين لتشكيل حكومة جديدة، وسط اهتمام متزايد من واشنطن التي استقبلته هذا الأسبوع بلقاءات مع مسؤولين من مختلف الأطياف السياسية، وهو ما يعكس اعتباره شخصية جديرة بالمتابعة، رغم إدراك حجم التحديات المحيطة بالمشهد الليبي.
لا تزال ليبيا منقسمة بين قوات المشير خليفة حفتر المدعومة من روسيا في الشرق، والسلطات المدنية في طرابلس المدعومة من تركيا، مع أدوار محورية لمصر والإمارات، بينما ينشغل الأوروبيون أساسًا بملف الهجرة عبر المتوسط. هذه الخارطة جعلت ليبيا ساحة صراع بالوكالة، وأضعفت سيادتها، فيما دفع المواطنون الثمن من بنية تحتية منهارة ومؤسسات عاجزة وواقع أمني هش.
ويرى مراقبون أن ضعف مؤسسات الدولة يمثل العائق الأكبر أمام الاستقرار، حيث تعاني الوزارات من الانقسام، والموظفون من تدني الأجور، والقضاء من غياب السلطة الفعلية. حتى في حال نجاح مجق في تشكيل حكومة وحدة، فإن توفير الخدمات الأساسية كالكهرباء والصحة والتعليم سيظل تحديًا عسيرًا، ما يهدد بتآكل الثقة الشعبية سريعًا.
أما على صعيد التدخل الخارجي، فإن القوى الإقليمية والدولية قد رسخت نفوذها العسكري والاقتصادي، ما يجعل استعادة ليبيا استقلال قرارها مهمة بالغة الصعوبة. غير أن رصيد مجق الدولي قد يمنحه فرصة لفتح قنوات تفاوض جديدة، وإن كان نجاحه مرهونًا بقدرته على بناء مؤسسات قوية وكسب دعم شعبي واسع.
إشارات مجق إلى استعداده لضم حفتر وأنصاره ضمن إطار مدني تقودُه الدولة، تعكس إدراكه أن المصالحة لا الإقصاء هي السبيل للاستقرار، غير أن قبول الأطراف المتجذرة في المشهد بهذا الطرح يظل موضع تساؤل.
ومع ذلك، يؤكد مراقبون أن ترشح مجق لن يغيّر وحده المعادلة السياسية المعقدة، في ظل انقسام داخلي حاد وتشابك مصالح خارجية، لكن حضوره يبرهن أن ليبيا ما زالت قادرة على إنتاج شخصيات ذات مصداقية دولية يمكن أن تكون نقطة بداية لمسار تسوية أوسع.
أما بالنسبة لواشنطن، فالدرس المستفاد هو ضرورة دعم العملية السياسية والمؤسسات المدنية دون المراهنة على شخصية واحدة. فالمصالح الأمريكية في ليبيا ـ من مكافحة الإرهاب إلى استقرار أسواق الطاقة والحد من ضغوط الهجرة على أوروبا ـ لن تتحقق إلا عبر بناء مؤسسات قوية، وإجراء انتخابات حرة، والحد من التدخلات الأجنبية.
وبينما لا يمكن إعادة بناء ليبيا حول فرد واحد، فإن بروز عبدالكريم مجق يوضح أن الأمل في قيادة مدنية ذات مصداقية ما زال قائمًا، وأن بلاده تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تسوية سياسية شاملة تنهي دوامة الحرب الأهلية المستمرة.
المصدر : عظيم إبراهيم – ناشيونال انترست
اضف تعليق