“أعطيك هذه الكرة.. الآن أصبحت الكرة في ملعبك” المشهد الغريب الذي بدأ به الثعلب الروسي المؤتمر الصحفي على هامش القمة التي جمعته ونظيره الأمريكي في العاصمة الفنلندية هلسنكي الاثنين، يحمل دلالات يمكن قراءتها عبر مستويين الأول حول مدى التزام ترامب بمخرجات الاجتماع والتي جاءت في مجملها لصالح سيد الكرملين .فى حين يدور الثاني حول ما اعتبر نأى روسيا بالنفس عن الأزمة السورية واعتبار موسكو نفسها جزءا من الحل وليست جزءا من المشكلة.
مزاح بوتين جاء رداَ على تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، بأن “كرة التسوية” في سوريا تبقى في ملعب روسي. وبالرغم من أن الكلام الصادر عن ترامب وبوتين في مؤتمرهما الصحافي المشترك أكد أن القمة لم تخرج بأي اتفاقات رسمية، لكن المؤكد أيضاً أن الاجتماع جاء لمصلحة روسيا . وعلق ليندسي غراهام، العضو البارز في مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري في تغريدة على نتائج القمة حيث قال “فرصة أضاعها الرئيس ترامب لمحاسبة روسيا بحزم عن تدخلها عام 2016 ولإرسال رسالة قوية بشأن الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة”.
الاجتماع التاريخي بدأ بعد تأجيل دام لنحو 45 دقيقة،عقب تأخر وصول طائرة بوتين إلى هلسنكي بنحو 30 دقيقة عن الموعد المخطط له، وهو ما رد عليه ترامب سريعاً، إذ انتظر وصول بوتين إلى قصر الرئاسة قبل أن يغادر فندقه. تأخر الرئيس الروسي عادة يتبعها منذ انتخابه الأول رئيسًا لروسيا في عام 2000 وفى حين يؤكد بعض الملاحظين في الكرملين أن هذه العادة مجرد تكتيك يحاول من خلاله أن يفرض شخصيته على الشخص الذي أمامه.يرى البعض الآخر أنها مجرد عادة شخصية وليست استراتيجيه محسوبة فمن أهم الشخصيات البارزة التي انتظرته كانت ملكة بريطانيا إليزابيث، والبابا فرانسيس بابا الفاتيكان، إلى جانب كثيرين. وفي عام 2014، تأخر بوتين لساعات عن اجتماع مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بعدما طالت زيارته في صربيا على غير المتوقع والمعلن مسبقًا، من أجل حضور عرض عسكري وطالما تأخر الرئيس الروسي عن أحداث رسمية في موسكو، وعادة لأنه يترك الاجتماعات الاستباقية أو التمهيدية تستمر لوقت أطول من المتوقع. ولكن كل هذا لا ينفى أن بوتين معروف بقدرته على ممارسة الترغيب والترهيب، وبحثه المسبق واستعداده لتنفيذ الحيل .
انفراد بوتين بـ “ترامب” أتى ثماره خاصة وأن القمة أحيطت بستار من الريبة والقلق من حلفاء الثاني , و يبدو أن رجل المخابرات المخضرم نجح بالفعل في استمالة الرئيس الأميركي والذي تبنى موقف المدافع عن موسكو على صعيد كافة الملفات المطروحة لاسيما قضية التدخل الروسي فى الانتخابات الأمريكية ولم يتردد في منح روسيا صك البراءة من التهم الرسمية الموجهة إليها من قبل لجنة روبرت مولر التي وصفها ترامب بـ”الكارثية” و”السخيفة . واعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه كان يريد بالفعل فوز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية الأميركية، لكنه أكد أن بلاده لم تتدخل إطلاقا في الانتخابات، بينما وصف ترامب العرض الروسي للتعاون في التحقيقات بـ”الرائع”.
مفردات الرئيس الأمريكي التي اختارها بعناية فى أولى تصريحاته بشأن القمة وقال فيها إن ” “الولايات المتحدة وروسيا لم تتفقا جيداً في السنوات الأخيرة آمل أن ذلك سيتغير وسننتهي بإقامة علاقات استثنائية”تدفع إلى الاعتقاد بأن العالم سيكون بعد قمة هلسنكي أمام نظام عالمي جديد، إذ أن تغريدات ترامب والتي سبقت الاجتماع بشأن العلاقات المستقبلية وتجاوز ما تسبب فيه “الغباء الأميركي”، و التصريحات الأوروبية القلقة بشأن مخرجات قمة هلسنكي وانتقادات قادة الناتو والاتحاد الأوروبي للرئيس الأميركي وتكرر عبارات من قبيل على أوروبا أن تعتمد على نفسها , تصيغ مبكراً المحصلة النهائية للقمة والتي اتجهت إليها أنظار العالم فالمعطيات تؤشر إلى أن الأيام المقبلة سوف تكشف عن صفقة شاملة تم إبرامها لاسيما مع العرض الذي تقدم به بوتين لواشنطن ويقضى بالسماح باستجواب الروس المتهمين بالتدخل في الانتخابات الأميركية
وعلى الرغم من أن إقرار قطبي القمة باستمرار الخلافات بشأن عدد من الملفات وأن هناك مشاكل كثيرة لم تستطع قمة هلسنكي حلها غير أن لهجتيهما بدت متقاربة في الحديث “أمن إسرائيل في جنوب سورية” والذى كان بنداً أساسياً لا يحتمل الجدل ، وسط تأكيد بوتين وترامب ضرورة حمايتها. إسرائيل من جانبها ثمنت على لسان رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، التزام الرئيس الأمريكي بأمن إسرائيل، كما أشادت بموقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إزاء الحاجة إلى تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة عام 1974 بين إسرائيل وسوريا عند خط وقف إطلاق النار في الجولان السوري المحتل.وكتب نتنياهو، على حسابه بموقع “تويتر”، مساء الاثنين، حول لقاء القمة بين بوتين ترامب، في العاصمة الفنلندية هلسنكي: “أرحب بالالتزام العميق من جانب الولايات المتحدة والرئيس ترامب بأمن إسرائيل، الصداقة بين إسرائيل والولايات المتحدة لم تكن أقوى من أي وقت مضى”.وأضاف: “كما أقدر التنسيق الأمني بين إسرائيل وروسيا وموقف الرئيس بوتين الواضح بشأن الحاجة إلى تنفيذ اتفاقيات الفصل لعام 1974 بين إسرائيل وسوريا”.
الرغبة المشتركة لدى الجانبين فى تفعيل أوجه التعاون بشأن مكافحة الإرهاب يمكن قراءاتها من خلال قول بوتين “نستهدف أن نعيد مجموعة العمل المشتركة بين الجانبين لمكافحة الإرهاب، لأن الجيشين الأمريكي والروسي لديهما خبرة في التعاون الوثيق من خلال قنوات الاتصال والتي سمحت بمنع العديد من التصادم على الأرض وفى السماء” . كما يمكن ملاحظتها من خلال تأكيد ترامب أن بلاده وبالتعاون مع العديد من الحلفاء على حافة تدمير تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة، كاشفاً عن وجود تنسيق كبير وواضح بين قيادات الجيش الروسي والأمريكي في سبيل القضاء على داعش والإرهاب.
إصرار ترامب على ضرورة عدم السماح لـ إيران باستغلال هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا وأهمية استمرا الضغط عليها لوقف العنف المتزايد الذي تمارسه في الشرق الأوسط يؤشر على أن هناك شبه اتفاق بين الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي على خنق إيران إذ أن الامتعاض الروسي من استمرار الوجود الإيراني برز قبل فترة ,من خلال حرص الأخيرة على إشعال بؤرة جديدة للصراع مع إسرائيل في حين يسعى بويتن للحفاظ على علاقاته مع نتنياهو وقد ظهر ذلك عبر إعطاء موسكو ضوءاً أخضر لإسرائيل بضرب أهداف إيرانية في سوريا والإدارة الأمريكية شبه مدركة أن موسكو لن تدفع ثمناً باهظاً لبقاء إيران لهذا فإنها ماضية بقوة نحو التفاوض على هذا الشرط الأساسي.
تداعيات لقاء هلسنكى أربكت طهران حيث يشير مراقبون إلى أن القمة شهدت صفقة مقايضة لم تعلن بعد تتضمن اعتراف الرئيس الأمريكي بتبعية شبه جزيرة القرم لروسيا، مقابل استمرار نظيره الروسي في الضغط على إيران للخروج من سوريا. ، وانسحاب القوات الأمريكية البالغة 2200 جندى من قاعدة “التنف”و تنتاب الدوائر السياسية فى إيران مخاوف بشأن احتمال تخلى الحليف عنها وهو ما عبرت عنها صحيفة “افتاب يزد” الإصلاحية في تقرير نشرته بداية يوليو الجاري، منتقدة رغبة المسئولين المستميتة في التعاون مع روسيا رغم علاقات روسيا بالولايات المتحدة وإسرائيل، ووصفت موسكو بلاعب الأكروبات الذي يجيد اللعب على الحبال، وقالت الصحيفة إن إيران قلقة من تخلى الرئيس الروسي فيلادمير بوتين عنها بعد لقاء نظيره الأمريكي ”
القمة اتسمت بأجوائها العابرة للبرتوكول حيث حرص الرئيس الأمريكي على إضافة لمسة من الدعابة عليها تعكس أن البيت الأبيض لديه نية لبدء مسار جديد للعلاقات مع الدب الروسي ,و أرسل ترامب أثناء المؤتمر الصحفي غمزه بعينيه إلى بوتين والذي التقطها بذكاء وعلى الرغم من اختلاف المحللين في تفسيرها إذ عدها البعض رسالة فيما ذهب البعض الآخر إلى أنها غير متعمدة لكن عند النظر لطبيعة الرئيس الأمريكي والتي تميل لتجاوز البرتوكول يمكن تصنيفها فى خانة كسر حدة اللقاء الرسمي وإعطاء انطباع عن الأريحية التي سادت الاجتماع .
ربما لم تسفر قمة هلسنكي ،عن مفاجآت، لكنها بثت رسائل واضحة حول تضييق هوة الخلافات بين البلدين وانطلاق حوار أميركي – روسي لاسيما وأن الخلوة بين القطبين امتدت لساعتين وهى ضعف المدة المقررة . كما رسمت وقائع المؤتمر الصحفي بداية علاقة شخصية بينهما، مما يرجح أن تشهد الشهور المقبلة اختبارات للتعاون في مجالات عدة خاصة وأن ترامب أبدى إعجابه أكثر من مرة بشخصية بوتين
.
اضف تعليق