حضور ناعم بل وجديد تسعى من خلاله الولايات المتحدة إلى التواجد بالمشهد الليبي ليكتمل بذلك مثلث التنافس داخل البلاد والذى تتصدره كل من إيطاليا وفرنسا لكن مع اتساق وتوافق بالرؤى ببن واشنطن وروما
بشائر الدخول أمريكي على خط الصراع الفرنسي الإيطالي يمكن استشرافها من خلال اللقاء الذى جمع بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي نهاية يوليو/تموز الماضي، والذى يعد بمثابة تفويض من الجانب الأمريكي لإيطاليا فيما يتعلق بالملف الليبي لاسيما مع إعلان ترامب دعمه لتنظيم إيطاليا مؤتمرا دوليا حول ليبيا، ينظر إليه كبديل لاجتماع باريس، الذي وضع خريطة طريق لانتخابات برلمانية ورئاسية في البلاد قبيل نهاية 2018 فضلاً عن إنشاء غرفة عمليات خاصة بإدارة شؤون المتوسط تختص بليبيا،.
اصطفاف واشنطن إلى جانب روما التي تفضل التريث في إجراء الانتخابات إلى ما بعد 2018 يعد ضربة قاصمة للدبلوماسية الفرنسية والتى ألقت بثقلها من أجل المصادقة على مشروع قانون الاستفتاء على الدستور وإقناع الفرقاء بتمريره عقب زيارة وزير الخارجية جان إيف لودريان إلى ليبيا نهاية يوليو الفارط , فحسب خريطة الطريق التي أقرها اجتماع باريس في مايو / أيار الماضي، يفترض أن يتم المصادقة على القوانين المتعلقة بتنظيم الانتخابات (الاستفتاء على الدستور، الرئاسية والبرلمانية) قبل 16 سبتمبر/ أيلول المقبل و مع إخفاق مجلس طبرق في تمرير التشريع ، اتهم الإعلام الفرنسي كلا من إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية بمحاولة خلط الأوراق والسعي لإفشال إعلان باريس والخطة والأممية لحل الأزمة في ليبيا منذرة بأن الخارطة الفرنسية سوف تلقى نفس مصير اتفاق الصخيرات، الموقع في ديسمبر/ كانون الأول 2015، والذي نجح مجلس النواب في إفشاله بعد رفضه اعتماد حكومة الوفاق حتى الآن.
التقاطع الإيطالي الأمريكي على الرقعة الليبية ربما يكون محاولة من جانب واشنطن للعب على الخلافات الأوروبية خاصة بعد بروز خلاف بين ماكرون ونظيره الأمريكي خلال قمة مجموعة السبع الأخيرة والتي عقدت في كندا يونيو الماضي . إذ أن العلاقة بين واشنطن وباريس تتسم بالفتور . لذلك لم يكن من المتوقع أن تتحالف الولايات المتحدة مع فرنسا لتسوية الصراع في ليبيا، خاصة وأن ساكن الإليزيه الجديد ينتهج سياسة تميل إلى الاستقلال وتُحاكي خط الرئيس الأسبق شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي. واتساقاً مع ذلك تبدو وجهات النظر بين ماكرون وترامب مُتباعدة بشأن العديد من القضايا من بينها الصراع العربي الإسرائيلي على أساس حل الدولتين والاتفاق النووي مع إيران.
ولعل هذا ما دفع ترامب إلى إبداء إعجابه بسياسة رئيس الوزراء الإيطالي الجديد، خاصة فيما يتعلق بتشدده حيال الهجرة و دعم خطة كونته والتي سبق ووجه لها ماكرون انتقاد شديد اللهجة وذلك قبل أقل من أسبوعين من أدائها القسم الدستوري، حينما وصفت فرنسا رفض روما استقبال سفينة لمنظمة إنسانية تحمل مهاجرين على متنها بأنه “معيب وغير مسئول من الحكومة الإيطالية” الأمر الذي استفز روما وفتح الباب على مصراعيه أمام موجة انتقادات مضادة لماكرون وسياساته فى ليبيا سعت خلالها روما إلى حشد كامل طاقاتها الدبلوماسية لإجهاض خارطة باريس عبر تأجيل الانتخابات من نهاية 2018 إلى 2019.
موعد الانتخابات أحد مؤشرات الصراع والنفوذ بين روما وباريس فبينما تسعى الأخيرة إلى إجرائها قبل نهاية العام الجاري بهدف توحيد السلطات وإنهاء حالة التشرذم الذى لم تفلح المفاوضات فى إنهائه , تتبنى إيطاليا رؤية مغايرة تدعو من خلالها إلى تهيئة التربة السياسية أولاً مما يعنى ضمنياً تأجيل الانتخابات . واشتعلت المعركة بين الجانبين عقب الاجتماع الذي عقدته باريس نهاية مايو الماضي وانتهى بالاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 10 ديسمبر المقبل .
حراك باريس المنفرد , حينها , أثار غضب الجارة الإيطالية واللاعب المحوري بالملف والتي أبدت انزعاجها ورفضها التام لمؤتمر باريس وانتقد الساسة هناك غياب بلادهم عن المشهد،باعتبارها عراب الجهود الدبلوماسية في ليبيا, إذ رأوا في الخطوات الفرنسية محاولة للصيد بالماء العكر وسحب البساط من تحت أقدام روما . فبينما تحظى فرنسا بحضور قوى في الجنوب وتعتبره إرثها التاريخي بليبيا ولديها مصالح هناك تعمد إلى تأمينها من خلال التحركات التي تقودها عبر سفاراتها فى ليبيا أو عبر قوى وقبائل تتمتع بدعم كامل من الإليزيه، ترغب باريس كذلك في ظل التطورات الحالية في مد نفوذها فى الشمال والغرب والشرق الليبي ، وهو ما أغضب إيطاليا والتي ارتأت في ذلك عدم مراعاة لمصالح الدول الأخرى الفاعلة على الأرض وتهميش لدور البعثة الأممية فضلاً عن كونه محاولة لمنح خليفة حفتر اعترافًا بشرعية تحركاته ، دون تقديمه تنازلات تدفع قدماً مسار العملية السياسية .وفى حين حسمت باريس أمرها عقب وصول ماكرون للإليزيه وقررت دعم حفتر وقد تبلور ذلك فى تعيين جون إيف لودريان، في منصب وزير الخارجية، والذي يعد المهندس الحقيقي لاجتماع باريس على الرغم من اعترافها باتفاق الصخيرات، تقوم السياسة الإيطالية في ليبيا، على ثلاثة محاور تتمثل فى دعم فايز السراج رئيس حكومة الوفاق, مساعدة الفصائل الليبية في التوصل إلى توافق، والحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة.
تجليات الحضور الأمريكي اللافت فى الرحبة الليبية تبلورت في تعيين ستيفاني ويليامز، من سفارة واشنطن بطرابلس، يوليو الماضي، نائبة للمبعوث ألأممي لليبيا غسان سلامة الأمر الذي يؤشر إلى تزايد اهتمام واشنطن بالساحة هناك ،ومع ظهور بوادر للتفاهم مع الجانب الإيطالي فإن ذلك قد يفضى إلى تضاؤل مساحة الدور الذي تلعبه باريس ، وقد يعيد النظر أيضا في خطة “سلامة” لحل الأزمة. كما تتضح من رسالة ترامب إلى كل من السراج، ورئيس مجلس النواب في طبرق عقيلة صالح فى يوليو والتي طالب فيها بتحرك سريع لحل أزمة النفط مما دفع خليفة حفتر، قائد القوات المسيطرة على الشرق الليبي إلى تراجع سريع عن تسليم موانئ الهلال النفطي، لمؤسسة موازية في بنغازي، وأعادها مرة أخرى للهيئة الرسمية في طرابلس.
قوة واشنطن الصلبة شبه حاضرة أيضا ,وفقاً لترجيحات مراقبين, من خلال بعض عمليات القصف الجوى بطائرات بدون طيار والتي تشط من حين لآخر حيث يتم الإعلان عن بعض الغارات يرجح أنها أمريكية لمسلحين سواء في شرق أو وسط أو جنوب غرب ليبيا، هذا إلى جانب انخراط الطيران الأمريكي و قوات حكومة الوفاق في دحر تنظيم “داعش” الإرهابي، في منطقة سرت وضواحيها منذ 2016 لكن التواجد العسكري الأمريكي حينها كان هدفه بالدرجة الأولى مكافحة الإرهاب .
النفط كلمة السر ومفتاح اللغز إذ أن دخول واشنطن لحلبة الصراع الفرنسي الإيطالي وعودتها القوية إلى ملف الأزمة الليبية بالوقت الراهن بعد الابتعاد لما يزيد عن سنة عن الملف الليبي بحجة أنه أولوية أوروبية وليس أميركية , يعد النفط محركاً رئيسيا له، إذ تسعى الولايات المتحدة لضمان السيطرة على عملية ارتفاع الأسعار لاسيما مع الاستعداد لفرض عقوبات على طهران خلال الفترة المقبلة ووجود شركات أمريكية عاملة هناك مثل إكسون موبيل و أوكسيدنتال بتروليوم
التحرك الأمريكي أيا كانت دوافعه قد يعجل بحل الأزمة الليبية ويضع حداً للعبث هناك لاسيما وأن الخلاف الإيطالي الفرنسي لم يعد يشكل عائقاً رئيسياً أمام الحل السياسي فقط بل بات يهدد بتحوله إلى حرب بالوكالة لكن فى كل الأحوال إجراء الانتخابات يتطلب توفير مجموعة من الضمانات لإنجاحها أبرزها تشكيل حكومة وحدة وطنية وأهمها تلك التي تتعلق بقبول الأطراف الفاعلة على الأرض بمخرجات العملية الديمقراطية









اضف تعليق