30 عاما مضت على هجوم ماربوف والذى استهدف مكاتب مجلة الوطن العربي ومؤسسها وليد أبو ظهر فى باريس ..ولاتزال المجلة تنبض بالحياة, إذ لم تزدها بصمات الحادث الأليم سوى صموداً وثباتاُ على مواقفها وكانت استقلاليتها هى الخيار الأثمن والأكثر قيمة دائماً من وجهة نظر مؤسسها ,فاستمرت وفية لاسمها ” الوطن العربى ” لأكثر من ثلاثة عقود .
تفاصيل الهجوم والذى يعد شاهداً على محاولات إخماد المجلة فى حربها ضد التواجد العسكرى السورى فى لبنان و استناداً لما تبعه من أحداث مفصلية بالمشهد العربى ، ولما ارتبط به من تداعيات, تبدأ فى صباح يوم 22 إبريل وتحديداً بالساعة 9.22 , حيث انفجرت أمام مكاتب الوطن العربى بشارع ” ماربيوف ” قنبلة قوامها نحو 20 كيلو جرام كانت مخبأة بحقيبة سيارة أوبل .أسفر الاعتداء عن مقتل سيدة بريئة تدعى ” نيلي غيليرمي” وإصابة نحو 68 شخصاً , الأمر الذى كان له تداعيات على العلاقات الفرنسية السورية , وطردت السلطات الفرنسية فى وقت لاحق من العام اثنين من الدبلوماسيين السوريين.
الهجوم غير المسبوق على وسيلة إعلامية تصدر من باريس لم يكن الأول من نوعه , فقد كان استمراراً لسلسلة من الاعتداءات استهدفت الراحل وليد أبوظهر فقبل بضعة أشهر من تلك الحادثة وتحديدا فى كانون الأول / ديسمبر 1981، تم نزع فتيل قنبلة مخبأة داخل صندوق إذاعي على عتبات مكاتب المجلة.
كما تعرضت مكاتب صحيفة “المحرر ” التى أسسها الراحل وليد أبوظهر خلال عقد الستينيات من القرن الماضي وعقب رفض الصحفية ” دخول القوات السورية إلى بيروت , ت لهجوم عسكرى منظم بالدبابات وحاصر نحو 100 جندى من الجيش الغازى مقر الجريدة , أصابت القذائف و الرشاشات المبنى في معركة استمرت 10 ساعات مع حراس الأمن وأربعة أشخاص من بينهم مدير الصحيفة.
ورغم الهجوم الشرس , عقد وليد أبو ظهر العزم على إصدار الصحيفة بموعدها المحدد فى اليوم التالى وخرجت المطبوعة تحمل على صفحتها الأولى عنوان ” المحرر لن تركع ” فى إشارة واضحة إلى تصميمه باعتباره مواطناً لبنانياً على الوقوف بوجه العدوان ومحاربة الغزو السورى للبلاد . وتجمع الشعب اللبناني بالآلاف للتنديد بالهجوم ودعم “المحرر.” فالهجوم والتهديدات المستمرة لحياته لم تمنع وليد أبو ظهر من القتال من أجل لبنان الحر والمستقل لكل مواطنيه.
وفى نهاية المطاف, بعد نحو سبعة أشهر من تلك الواقعة , تم حظر الصحيفة اليومية. وإثر مطاردة استمرت لعدة أيام من قبل البلطجية والمرتزقة السوريين, أرغم وليد أبو ظهر على النزوح للمنفى مع عائلته عن طريق قارب ,ضل طريقه في البحر لمدة ثلاثين ساعة من صيدا إلى قبرص.
ربما يبدو السؤال الذى يتبادر إلى الذهن الآن منطقياً وهو : لماذا جرى استهداف الراحل وليد أبوظهر وصحيفة المحرر يليها مجلة الوطن العربى على هذا النحو أكثر من مرة ؟ قد تنبئ شهادة الزعيم السياسي والشهيد كمال جمبلاط حول الهجوم على صحيفة المحرر ببعض الأحاديث حيث قال عبر رسالة مفتوحة حينها : “المحرر صحيفة رائعة ولكن هناك سقف معين لا ينبغي تجاوزه. والمشكلة الوحيدة هي أن المحرر قد تجاوزت هذا السقف “. كما أشار السياسي اللبناني إلى أن الصحيفة قد عارضت الاتفاقيات الجيوسياسية للقوى العظمى في العالم وأصبحت أقوى مما ينبغي .
هنا يجب أن نضع مليون خط تحت جملة “الاتفاقات الجيوسياسية للقوى العظمى فى العالم وأصبحت أقوى مما ينبغى” فقد كان التواجد السورى حالة من حالات التموضع الجيوسياسيى فى المنطقة هدفه إضعاف لبنان لصالح تمدد نفوذ نظام البعث السوري وإيران وهو ما عارضه وليد أبوظهر حينها عبر “المحرر ” من أجل لبنان الحر والمستقل لكل مواطنيه. وخلال تلك المرحلة الحساسة والحرجة ، لعبت ” المحرر” دورا رئيسيا في تأسيس الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية. وشهدت مكاتبها الإرهاصات الأولى ” لانطلاق المقاومة الفلسطينية .
إسدال الستار على ” المحرر” لم يمنع وليد أبوظهر من أن يستأنف معركته مجدداً ,عبر صفحات مجلة الوطن العربى التى أبصرت النور فى فبراير من عام 1977 لتكون أول مشروع إعلامي عربي مهاجر يصدر في أوروبا، . وكان هدف المجلة هو أن تصبح منصة لجميع العرب في العالم. وصوتاً قوياً يدافع عن القضايا العربية ويندد بانتهاكات القوى العظمى .
كما لعبت المجلة دورا ثقافيا هاما، و فتحت أبوابها لمثقفي المغرب العربي وأوروبا، في الوقت الذي لم يكن يسمع فيه قراء بلاد الشام والخليج عن أسماء الكثير منهم. ودعمت المطبوعة الأسبوعية المهاجرين العرب في القارات الخمس وقدمت لهم دليلا شاملا لمساعدتهم على الاندماج وفهم القوانين واللوائح في البلاد التي استضافتهم, فقد كانت المجلة وفية للاسم الذي حملته” الوطن العربي” . كانت ” الوطن العربي” امتدادا للمحرر وحملت نفس الروح الثورية . حيث انتهجت خطاً قوياُ معارضاً لنظام الأسد، مما أتاح مساحة كبيرة لقادة المعارضة السورية. ونتيجة لذلك، تلقى وليد أبو ظهر تهديدات بالقتل. ففي عام 1979، نجا من الموت بأعجوبة عندما أخطأت عصابة من المسلحين وقامت بطعن جاره بدلا منه . تلك الواقعة التى نجا منها الجار أيضا تعكس قوة تأثير “الوطن العربى” ومؤسسها .إن معركته من أجل القضايا العربية ومعارضته للغزو السوري للبنان جعلته هدفا للاغتيال.
و تميزت المجلة بسلسلة من الانفرادات الصحفية ،حيث كشفت عن خطط لاغتيال السفير الفرنسي في لبنان من قبل المخابرات السورية. وفي أيلول / سبتمبر 1981، اختطف السفير وتم اغتياله بالفعل . مؤكدا بذلك السبق الصحفى الذى نشرته ” الوطن العربى ” .
وفي أوائل عام 1982، أعدت قناة “تى –إف 1 ” الفرنسي فليماً وثائقياً عن اغتيال السفير , وقررت المخابرات السورية آنذاك استهداف الوطن العربي وصاحبها.فعملت على إخماد صوتها وتدميرها عبر التحذير من خداعها وترويج مزاعم حول دورها المزودج والخفى فى لبنان وسوريا خاصة بعد مطالبة الرئيس الفرنسى ميتران للقوى الأجنبية بمغادرة لبنان بسلام .
كان وليد أبو ظهر من اكبر المؤيدين للعراق فى حربها ضد إيران , ووقف ضد تصدير الثورة الإسلامية للدول العربية , وقد أسهمت الافتتاحية القوية وغلاف المجلة التى طالما دعمت وعززت القومية العربية فى تغيير وجهات نظر وموقف دول بأكملها كانت مفتونة بالتجربة الإسلامية الجديدة فى إيران . فى ذلك الحين ,قال وزير جزائر ى لصدام حسين بشكل علنى وصريح ” “يجب أن تبني لهذا الرجل تمثالاً من الذهب ,فقد نجح من خلال مجلته فى تحويل دعم ومساندة الشعب الجزائرى بالكامل من إيران إلى العراق . وعندما أخبر صدام وليد أبو ظهر بالقصة ،أجاب بحسه الفكاهى المعروف ” احتفظ بالتمثال ,وأعطنى الذهب ” .
مع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية , توترت العلاقة بين الوطن العربي والعراق عندما حاولت المخابرات العراقية التي كان يرأسها برزان التكريتي شقيق صدام حسين فرض سيطرتها على المجلة . وعرضوا على وليد أبو ظهر نحو 500 مليون دولار لإنشاء مجموعة دولية تعمل فى شتى القطاعات بدءا من البناء حتى الطاقة بحيث تكون شركة الإعلام جزءا منها وترعى المصالح العراقية فى لبنان والعالم . ولأن أبو ظهر كان قلقاً وغير مطمئن للتوسع بسياسات النظام العراقى , ولأن استقلاليته كانت الخيار الأثمن والأكثر قيمة من وجهة نظره , فقد رفض العرض , ورفض أن يتحول إلى دمية فى أيدى أى نظام .
وكان يدرك جيداً ما هى العواقب , فقد تم حظر جميع عمليات التوزيع والمستحقات المالية للمجلة من العراق. جاء ذلك في الوقت الذي تم فيه تقليص وتحجيم نفوذ جميع الناشرين المستقلين العرب لأن الحكومات الإقليمية قد بدأت في إنشاء وسائل الإعلام الخاصة بها في أوروبا.في هذه الفترة أعلنت مجلة المستقبل التى تعد عنواناً منافساً ,إفلاسها، فيما تم الإستيلاء على وسائل الإعلام الأخرى وإغلاقها واستبدالها بأخرى مملوكة للحكومات .
ورغم أن موقفه المالى كان غاية فى الصعوبة ، تمكن وليد أبو ظهر من مواصلة الإبحار واستمر في نشر آرائه الخاصة. بعد ذلك أنشأ أول وجود له في مصر، البلد الذي كان لايزال معزولا بسبب توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل.
وفي عام 1990، غزا العراق الكويت. ولأنه لم يستطع أن يقبل ما فعله, النظام السوري ,من قبل ,في لبنان, فقد أدان هذا الغزو. وكان هذا الموقف نهاية للصداقة التاريخية مع العراق، وتسبب في خسائر مالية ضخمة حيث فقدت المجلة جميع مستحقاتها في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، لم يتمكن وليد أبو ظهر من الوقوف ضد الملك سلمان بن عبد العزيز الذي كان حاكما للرياض في ذلك الوقت، وكان دائما ما يظهر دعمه وتقديره. فعدد قليل من الناس يعرفون أنه في عام 1982 عندما انفجرت السيارة المفخخة أمام مكاتب الوطن العربي، كانت أول مكالمة تلقاها أبو ظهر ,تدين الهجوم, من الملك سلمان , وكان هذا هو الحال مع كل المواقف الصعبة خلال السنوات التالية .
بعد حرب الخليج الأولى، تغيرت المنطقة ودخل وليد أبو ظهر مرحلة أكثر حكمة ونضجاً في حياته الصحفية. فقدأصبحت لهجتة أقل عدوانية وتركيزه أكثر على صنع السياسات. كان يكتب فى تلك الفترة لدعم وتعزيز التحول في المنطقة من خلال الحوار والتحليل الذاتي.
مع ذلك فإن بعض الأعداء لاينسون مطلقاً ، ففي عام 1992، تم تنظيم سطو مسلح على منزله الباريسي, فبينما سافر وليد أبو ظهر بالليلة السابقة لمصر في رحلة عمل كانت زوجته وابنه وإحدى بناته تحت تهديد السلاح من قبل ثلاثة ملثمين اقتحموا البيت بعد أن أخضعوا أمن المبنى. حتى يومنا هذا، لا أحد يعلم ما إذا كانت تلك الحادثة المحاولة الأخيرة لاغتياله أم التحذير النهائي.
باختصار تبدو قصة مجلة “الوطن العربى” المعقدة هى ذاتها قصة ” العالم العربى ” بكل زخمها وتشباك فصولها , ومع ذلك وعلى الرغم من كل المخاطر، والمؤامرات والحروب، فإنه لا يزال مرنا ولديه فرصة للإزدهار والنمو .
اضف تعليق