الرئيسية » تقارير ودراسات » الأزمة الليبية ..قراءة في الصراع ومعوقات التسوية
تقارير ودراسات رئيسى

الأزمة الليبية ..قراءة في الصراع ومعوقات التسوية

الساحة الليبية حبلى بالتعقيدات..تتشابك بين جنبات  المشهد مصالح قوى عالمية وإقليمية  مع حكومتين تتنازعتان السلطة , وفى وسط العاصمة طرابلس تعد حروب المليشيات ظاهرة طبيعية مكملة لمفردات الصراع الدائر منذ سبع سنوات , في حين تبدو الحلول السياسية فى وضع أقرب للاحتضار , إذ مازالت حتى اللحظة الراهنة مجرد حبر على ورق .

حالة التشظي بالرحبة الليبية تتكشف بمجرد استعراض مكوناتها إذ تتصارع على السلطة حكومتان الأولى بقيادة عبد الله الثني في مدينة البيضاء، وتلقى دعماً من البرلمان المنتخب عام 2014 والقائد العسكري خليفة حفتر بقواته التي تحكم سيطرتها  شرق ليبيا وتستحوذ على 90 بالمائة من حقول النفط الليبية . وتنافسها على الأرض حكومة السراج والتي تموضعت عقب اتفاق الصخيرات وتشكيل المجلس الرئاسي، وذلك بعد خروج  خليفة الغويل المدعوم من التيارات الإسلامية، من المشهد الحكومي

الميليشيات المسلحة جانب من القوى الفاعلة على الأرض حيث تحكم قبضتها بقوة على العاصمة طرابلس وتتصارع فيما بينها بالأسلحة الثقيلة  ويشكل حضورها ظاهرة طبيعية بالمشهد والعرض المستمر من الصدام بينها لايتوقف رغم تعدد مسبباته والتي لا تخرج غالبا عن السيطرة على نقاط  النفوذ والثروة فى بعض الأحيان , وفى حالات آخر تكون دوافعها  مرتبطة  بتحقيق مكاسب لبعض الأطراف والحصول على أوراق ضغط تقوى من مركزها  في لعبة المفاوضات الدبلوماسية . ولعل المفارقة الغريبة هنا هي لجوء حكومة الوفاق الوطني بقيادة السراج إلى تلك المليشيات العسكرية  كي توفر لها الحماية فضلاً عن أن أغلبها تتلقى ميزانيتها من وزارة الدفاع، رغم استقلالها الظاهري عنها .

آخر حلقات مسلسل “حروب المليشيات ” دارت أحداثها أوائل الشهر الجاري بين مسلحين من كتيبة ثوار طرابلس والكتيبة 301 وكتيبة دبابات أبو سليم من جهة، وجميعها (تخضع تبعيتها) لحكومة الوفاق الوطني، وبين اللواء السابع مشاة في ترهونة، من جهة أخرى , تلك الاشتباكات أسفرت فرار نحو 400 سجين بعد أن تمكنوا من فتح أبواب السجن بالقوة ولم يستطع الحراس إيقافهم فضلاً عن عشرات الجرحى والقتلى

هشاشة المشهد  تتجلى كذلك في أنه على الرغم من توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين الميلشيات العسكرية برعاية أممية فى  الرابع من سبتمبر  غير أن الرغبة بين أطراف النزاع لا تزال حاضرة إذ لم يقم أي منها بسحب أسلحته الثقيلة من مؤسسات الدولة والمناطق السكنية، فيما تتواصل لهجة التصعيد بين الأطراف المتصارعة منذرة بتجدد القتال. ولعل هذا ما يفسر تحذيرات سابقة من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا من أن تزايد المجموعات المسلحة والأعمال العدائية والخطاب العدائي ينذر بخطر حدوث مواجهة عسكرية واسعة النطاق في العاصمة طرابلس

حالة التناحر يغذيها دخول القوى الدولية على خط الصراع وتحول ليبيا إلى ساحة لتصفية الحسابات بين أطراف دولية تتباين مصالحها وأجنداتها , فعند مطالعة قاطرة التنافس الأوروبي  بالملف الليبي  نلاحظ أنه بالسنوات الأولى للأزمة  انحصر الصراع في وجود قطبين رئيسين يقودان اللعبة على الصعيد الدبلوماسي  والعسكري .فبينما تحظى فرنسا بحضور قوى في الجنوب وتعتبره إرثها التاريخي بليبيا ولديها مصالح هناك تعمد إلى تأمينها  من خلال التحركات التي تقودها عبر سفاراتها فى ليبيا أو عبر قوى وقبائل تتمتع بدعم كامل من الإليزيه، ترغب باريس كذلك في ظل التطورات الحالية في مد نفوذها  فى الشمال والغرب والشرق الليبي ، وهو ما أغضب إيطاليا والتي ارتأت في ذلك عدم مراعاة لمصالح الدول الأخرى الفاعلة على الأرض

التنافس المحموم بين إيطاليا وفرنسا على ليبيا  يدور في فلك أمرين , الأول والأهم هو احتياطات الغاز الضخمة فقد حصدت روما عبر شركاتها الكثير من مغانم القطاع النفطي  وبطبيعة الحال لا ترغب في أن تتقاسم معها فرنسا الكعكة الليبية ويتجلى  المحور الثاني للصراع بين باريس و روما  في ملف اللاجئين  كما تستند حيثيات الرفض الإيطالي للوجود الفرنسي  داخل الساحة الليبية إلى شعور الأولى أنها صاحبة الحق المطلق في ليبيا لذلك ليس من السهل عليها القبول بمنافس نظراً لاعتبارات تاريخية فلا تزال روما ترى بها منطقة نفوذهم الرئيسية والمستعمرة الأقرب جغرافيا فضلاً عن ، ارتباط أمن روما بنظيره فى طرابلس

موعد الانتخابات أحد مؤشرات الصراع والنفوذ بين روما وباريس فبينما تسعى الأخيرة إلى إجرائها قبل نهاية العام الجاري بهدف توحيد السلطات وإنهاء حالة التشرذم  الذى لم تفلح المفاوضات فى إنهائه , تتبنى إيطاليا رؤية مغايرة تدعو من خلالها إلى تهيئة التربة السياسية أولاً مما يعنى ضمنياً تأجيل الانتخابات . واشتعلت المعركة بين الجانبين عقب الاجتماع الذي عقدته باريس نهاية مايو الماضي وانتهى بالاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 10 ديسمبر المقبل .

التطورات في ليبيا كشفت أيضاً عن مدى تأثير روسيا على مجريات الأحداث في المنطقة, فقد اختارت موسكو الانخراط في الأزمة منتعشةً بنجاحها في سوريا، واعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي عام 2016، لكنها في الوقت نفسه شرعت فى العمل  بصورة ناشطة مع خصمه المشير خليفة حفتر والذي تميل له موسكو على نحو متزايد وترى به رجلاُ قوياً بسبب إعلانه  الدائم عن كراهية الجماعات الإسلامية وخلفيته العسكرية لكن دعم موسكو لحفتر والذي برز في السنوات الأخيرة يمكن إدراجه كذلك في إطار محاولة للضغط على  خيار الغرب المفضل في طرابلس والمتمثل في حكومة فايز السراج.

إرهاصات  الحضور الأمريكي اللافت فى الرحبة الليبية  يمكن استشرافها من خلال اللقاء الذي  جمع بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي نهاية يوليو/تموز الماضي، والذى عد بمثابة  تفويض من الجانب الأمريكي لإيطاليا فيما يتعلق بالملف الليبي لاسيما مع إعلان  ترامب دعمه لتنظيم إيطاليا مؤتمرا دوليا حول ليبيا، ينظر إليه كبديل لاجتماع باريس، الذي وضع خريطة طريق لانتخابات برلمانية ورئاسية في البلاد قبيل نهاية 2018  فضلاً عن إنشاء غرفة عمليات خاصة بإدارة شؤون المتوسط تختص بليبيا.

اصطفاف واشنطن إلى جانب روما والذي شكل ضربة قاصمة للدبلوماسية الفرنسية والتى ألقت بثقلها من أجل المصادقة على مشروع قانون الاستفتاء على الدستور وانعكس داخل مجلس الأمن حيث أشارت بعض التطورات إلى وجود تنافس أميركي– فرنسي داخل أروقة المجلس ، أعقبه تعيين الأميركية سيتفاني وليامز نائبة للمبعوث الأممي إلي ليبيا غسان سلامة (فرنسي من أصل لبناني)، تلاه نشاط أكبر للسفيرة وليامز مما يؤشر إلى أن  البوصلة الأميركية تضبط اتجاهها على ليبيا بالمزيد من الزخم والتفاعل. و أن المناوشات الغربية أمامها المزيد من الوقت لتستقر ناحية رؤية واشنطن أو فرنسا أو إيطاليا، وربما  يضطر الجميع إلى الجلوس والتوصل إلى تفاهمات سياسية وأمنية تحقق لكل طرف جانبا من أهدافه.

دخول إعلان باريس إلى مرحلة “الاحتضار ” وفقاً لإحاطة قدمها المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، أمام مجلس الأمن، مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، لمّح خلالها ، إلى بدء فقدان الأمل بنجاح خارطة باريس  في إيصال العملية السياسية بالبلاد إلى بر الأمان، مؤكدًا وجود “سبل أخرى” , دفع الولايات المتحدة إلى تلمس خطواتها فى الساحة الليبية بمزيد من القوة إذ  لم تمض أيام حتى نشر موقع “أتلانتيك كاونسل” الأمريكي، تفاصيل ما قال إنها الخطة البديلة التي ألمح إليها سلامة، مشيرًا أن نائب الأخير، الأمريكية “ستيفاني وليامز”، تقدمت بها.

الخطوة الأولى بخطة “وليامز ” الأمريكية، بحسب التقرير، تتمثل في عقد مؤتمر وطني ليبي جامع، تصدر عنه دعوة لمجلس الأمن إلى سحب الاعتراف بجميع المؤسسات السياسية في البلاد، التي تستمد شرعيتها من القرار الأممي رقم 2259، على اعتبار أنها فشلت في المهام الموكلة إليها، وباتت جزءًا من المشكلة. بعد ذلك، يتقدم المؤتمر بـ”نصيحة” إلى الأمم المتحدة، مفادها أن إجراء انتخابات رئاسية في الوقت الحالي، الذي تعيش فيه البلاد تشرذمًا وانعدامًا للأمن، سيقود إلى تعميق الأزمة.
وثالثًا، يطالب المؤتمر مجلس الأمن بقرار تحت الفصل السابع، من ميثاق الأمم المتحدة، بما “يجبر” جميع الأطراف في ليبيا على تنظيم انتخابات برلمانية عامة في غضون ستة أشهر، وفقًا للتشريعات القائمة حاليًا. أخيرًا، تصدر الولايات المتحدة وحلفاؤها، بموجب الخطة، تحذيرات مباشرة وحازمة لجميع الأطراف، بشأن احترام نتائج العملية وعدم عرقلتها.

خارطة الطريق الأمريكية فى ظل تفاقم الأوضاع ،وتصميم المبعوث الأممي قد تتحول إلى أمر واقع في مؤتمر يعقد بروما، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لكن هذه الصيغة بما تحمله بنود قد تسفر عن قضم مخالب القوى السياسية لفاعلة على الأرض بما فيها حكومة الوفاق والسراج وحفتر وبالتالي القوى الإقليمية والدولية التي تقف خلفهم، وخصوصًا فرنسا.
في المقابل، سيظهر على الساحة تشكيل جديد، يتكون من قادة محليين وقبليين، ونشطاء، مع حفظ مقاعد لأنصار النظام السابق وأنصار حفتر.

ثمة عقبات تواجه الخطة إذ أنها على الأرجح ستواجه معارضة قوبة من جانب أغلب الأطراف الليبية ، سواء تلك التي حققت مكاسب سياسية أو عسكرية بأثمان باهظة على مدار السنوات الماضية، أو التي ستبحث عن مكتسبات الثورة فضلاً عن أن  عملية تأمين البلاد، في ظل المساحة الشاسعة والحدود الطويلة ستكون مهمة شاقة فى ظل غياب الأطراف التى نجحت فى تأسيس نفوذها داخل البلاد .

الورقة الأميركية أغفلت كذلك ، دور القبائل الليبية وتأثيرها وتوجهاتها ،فبينما  تطالب القبائل عبر المؤتمرات المتفرقة التي تعقد في جنوب وغرب وشرق ليبيا، بتمكين مؤسسة عسكرية وطنية قبل طرح أي خطط للحل, تتضمن بنود الخطة الاعتماد على بعض الميليشيات المسلحة كبند رئيسي في الحل لذا  تدور المخاوف من إمكانية إقدام القوى القبلية على قلب الطاولة إذا لم يتم الالتفات إليها لاسيما وأن المراقبون للشأن الليبي يدركون جيداً أن احتمالات الاستقرار وإحداث توازن سياسي ترتبط بثقل القبائل .

الخطة الأميركية ولدت مشوهة لاسيما مع إغفالها للأوضاع في الجنوب الليبي والتي تميل نحو  الانفجار مع انعدام الأمن والاستقرار وانتشار جماعات متطرفة، بعضها جاء من دول أفريقية مجاورة، واحتمى بمناطق التماس مع ليبيا، فضلاً عن إدراجها  القوى الموالية للقذافى ضمن مقاطعها  مما يؤكد صعوبة تنفيذ هذه النوعية من الرؤى السياسية لاسيما مع انتشار أنباء تتحدث  عن رغبة سيف الإسلام القذافي في ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة.

ظلال تجارب الماضي أثبت , بما لا يدع من مجالاً للشك , أن الأزمة الليبية أكثر تعقيداً من أن تحل بمثل هذه البساطة , وأن “أهل طرابلس أدرى بشعابها ” بمعنى أن الأطراف الليبية إلى جانب القبائل هي مفتاح الحل ,وما ترمى إليه واشنطن ومختلف الأطراف الخارجية التى تحركهم المصالح فقط , من تقليص دور الأجسام السياسية قد يفضى إلى تعثر ولادة الخطة المرتقبة    أو على الأقل أن  تواجه نفس المصير الغامض لخطة فرنسا .