على الرغم من حالة الإجماع بين قادة القمة الرباعية في اسطنبول على تعزيز هدنة هشة في إدلب والتقدم باتجاه عملية انتقال سياسي غير أن مخرجاتها حملت توصيات فضفاضة تجاهلت الخوض في غمار التفاصيل المتعلقة بالتطورات الميدانية وسبل حل الأزمة والتي هي محل خلاف بينهم .
ربما تستمد القمة أهميتها من كونها جمعت للمرة الأولى بين تيارين مختلفين تتباين أولوياتهما فيما يتعلق بالأزمة السورية . المسار الأول تمثله روسيا وتركيا المنخرطتان بالفعل بمفاوضات أستانا والتي أرست اتفاق خفض مناطق التصعيد ومهدت الطريق لهدنة إدلب , فى حين تمثل فرنسا وألمانيا معسكر جنيف أو ما يعرف بـ ”مجموعة سوريا المصغرة”.
حالة التباين فى الروىء بين المسارين انعكست بشكل واضح فى تصريحاتهم عقب القمة والتى تؤشر إلى أن التوافق الجمعي بين زعماء القمة “هش ” وأن لكل طرف أجندته الخاصة فيما بتعلق بمجريات الصراع , فبينما شدد بوتين على مسألة محاربة الإرهاب والمنطقة منزوعة السلاح في إدلب واحتفظ بذات الوقت بكامل حقوقه فى دعم نظام الأسد عسكريا إذا تطلب الأمر , حملت كلمة أردوغان إشارة واضحة إلى الأكراد , مؤكداً على قتال من وصفهم بـ”الإرهابيين” شمال سوريا . فى المقابل ركزت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل على أن “الشعب السوري في الداخل والخارج” هو الذي سيحدد مصير الرئيس بشار الأسد عبر الانتخابات وأنه لا حل عسكرياً للأزمة السورية ,وهو ما وافقها عليه ماكرون حيث شدد الرئيس الفرنسي بدوره على الحل السياسي واللجنة الدستورية.
الخروقات المتزايدة والتي جاءت عقب انتهاء القمة بساعات , تعكس ضعف مخرجاتها و تكشف أسباب حماس المشاركين بها لانعقادها ,فبينما رأت بها تركيا –أرودغان فرصة للإفلات من قبضة الثنائي الروسي – الإيراني والمسيطر بقوة على مشاورات أستانة بشكل يمكنها من لعب دور أكبر على الساحة السورية بعد أن كاد دورها ينحصر في شريط حدودي ضيق فضلاً عن كونها تعويض لعلاقاتها المتردية مع واشنطن ونافذة للتقارب مع أوروبا بعد فترات الجفاء والقطعية , ترغب روسيا –بوتين التي تقود تفاهمات أستانة و تهدف إلى إصلاحات على الورق، والحفاظ على نفس هيكل السلطة، والحفاظ على حكم الأسد، ترجمة انتصاراتها الميدانية إلى اتفاق سياسي شامل عبر استمالة الدول الأوروبية إلى صفها لإعادة بناء سوريا بعد الحرب وتعزيز دورها الجديد “كوسيط قوي في الشرق الأوسط”,فيما تعاني فرنسا وألمانيا باعتبارهما ممثلتان للقارة الأوروبية من التهميش بالملف السوري وبذات الوقت تتحمل تداعياته السلبية من موجات اللاجئين والتهديدات الإرهابية وبالتالي هي تسعى إلى أن يكون لها حضور مؤثر في ملف إعادة الإعمار واللاجئين السوريين، وترى أن المدخل إلى ذلك، حل سياسي شامل وتوافقي
الاجتماع الرباعي كان فيما يبدو “ساحة جيدة لضبط الساعات” وصيغة “ممتعة جداً” على حد تعبير المتحدث باسم الكرملين ، ديميتري بيسكوف والذي استبعد قبل يومين من انعقاد القمة الوصول إلى اتفاقات أو “اختراقات” خلال القمة , فبعد مضي نحو 24 ساعة من انعقاد قمة إسطنبول عززت أنقرة نقاطها في محيط إدلب حيث دفعت القوات التركية بالمزيد من التعزيزات العسكرية إلى نقاط المراقبة التابعة لها جنوب المحافظة. وأكدت المصادر دخول رتل تركي مؤلف من 20 آلية ثقيلة وعربة مصفحة بالإضافة إلى كتل أسمنتية تم توزيعها على نقاط المراقبة في الصرمان بريف إدلب الجنوبي الشرقي ومورك بريف حماة الشمالي.
على الضفة الأخرى ,لم يختلف نهج الأسد عن نظيره التركي حيث نفذ النظام السوري أول إجراء عسكري في المنطقة منزوعة السلاح في شمال سوريا بعد ساعات من انتهاء القمة الرباعية في إسطنبول. وأفاد مراسلون بأن قوات الأسد واصلت انتهاك اتفاق سوتشي واستهدفت عدة قرى وبلدات في ريفي حماة وإدلب الواقعة ضمن المنطقة منزوعة السلاح.
الانعكاسات الهشة للقمة فيما يتعلق بجهود إعادة كتابة الدستور، تجسدت فى تجاهلها للخلافات المعلنة بين اللجنة الدستورية وبالوقت ذاته, التوصية بتأسيس لجنة في جنيف لصياغة الدستور وتهيئة الأرضية لانتخابات نزيهة, فقد أكَّد المبعوث اﻷممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، والذي أعلن أنه لن يتمكن من حل عقدة اللجنة قبل نهاية تكليفه بالملف السوري ، أن نظام الأسد يرفض أيّ دور للأمم المتحدة في اختيار “القائمة الثالثة” لتشكيل اللجنة الدستورية المنوط بها تعديل دستور البلاد؛ تمهيداً ﻹجراء انتخابات تحت إشراف اﻷمم المتحدة.ويفرض النظام السوري والروس رؤيتهم في اختيار “القائمة الثالثة” المفترض تشكيلها من “المستقلين” ويعمدون إلى الزج بأسماء موالية لموسكو وهو ما ترفضه تركيا؛ ما يؤدي إلى عرقلة الملف.ومن المفترض وفقاً لمخرجات مؤتمر “سوتشي” أن يقوم دي ميستورا باختيار أعضاء اللجنة بالتساوي من بين 50 اسماً تقدمت بهم تركيا باسم المعارضة السورية، و50 آخرين تقدمت بهم روسيا باسم النظام السوري، و50 من “المستقلين” تختارهم اﻷمم المتحدة.
محور الخلافات يتركز حول إصرار جهات داعمة لنظام الأسد تحديداً روسيا على أن تكون نسب الثلث الثالث (قائمة المجتمع المدني) في اللجنة الدستورية لصالح النظام، إضافةً لتخفيف دور الأمم المتحدة بهذا الخصوص ورفض وزير خارجية النظام وليد المعلّم أيّ دور للأمم المتحدة في اختيار القائمة الثالثة في لجنة الدستور، وأكد له أن المسألة “حساسة وتخص السيادة السورية .فضلاً عن أن هناك خلافات أيضاً حول مَن سيرأس اللجنة الدستورية بعد تحديد 15 شخصاً يختارهم “دي ميستورا” مِن القوائم الثلاث، حيث يطالب كل طرف بأن يترأس اللجنة أحد ممثليه.
فعلياً, يرغب نظام الأسد في دفن العملية السياسية قبل أن تبدأ بل وتقزيمها فى لجنة دستورية يعارض بشدة أن تمضى قدماَ تحت إشراف الأمم المتحدة , هو نفس موقف روسيا والتي أعلنت على لسان وزير خارجيتها “سيرغي لافروف” أن بلاده لا ترى سبباً لاستعجال إنشاء اللجنة الدستورية السورية، داعياً لعدم “عرض مواعيد مصطنعة لبدء العمل”، معتبراً أن “المهم هو الجودة والنوعية” . إذن كل المعطيات تدل على أن نظام الأسد وحلفائه يسعون لكسب المزيد من الوقت وتجميد العملية السياسية لذلك يعمدون إلى رفع سقف مطالبهم بغية تعطيل عمل اللجنة خاصة مع وجود حساسية مفرطة لدى ممثلي النظام حول أى بند يتعلق بانتقال السلطة .
تعنت الفصائل المسلحة يشكل إرثاً قاتلاً لأية توصيات بالحل السياسي, فقد انقسمت هيئة تحرير الشام إلى جناحين: جناح أبلغ الأتراك بقبوله بالاتفاق الروسي التركي حول المنطقة منزوعة السلاح وإخراج التنظيمات الإسلامية المتشددة وسلاحها الثقيل من المنطقة وجناح ثان غير مقرب من المخابرات التركية يرفض نزع السلاح ومغادرة المنطقة وتحولت الخلافات والانشقاقات داخل هيئة تحرير الشام إلى عمليات اغتيال وتصفيات تستهدف عناصر وقادة من الجناح المتشدد داخل الهيئة مما قد يمثل نكسة لمسارات الحل السلمي وينذر بانهيار اتفاق إدلب لاسيما وأن لكل طرف تفسيراته وتأويلاته الخاصة لبنود الاتفاق حيث تصر بعض الفصائل على عدم جود أيّ بندٍ في اتفاقِ سوتشي يقضي بتسليم المجموعات المُسلّحة سلاحها لأية جهة كانت.
اللافت في القمة , إغفالها لملف التواجد الإيراني في سوريا ،وعلى الرغم من أنها جمعت خصمين للنظام الإيراني ؛وهما فرنسا وألمانيا،إذ كان من المتوقع أن يكون على رأس تلك المحاور التي يتم مناقشتها وأن تطرح كل من فرنسا وألمانيا حلولاً للوجود الإيراني في سوريا، خاصة مع تأكيد باريس على لسان وزير خارجيتها جان إيف لو دريان، في فبراير الماضي، أن إيران تنتهك القانون الدولي بما تتخذه من إجراءات في سوريا.وأعلنت ألمانيا على لسان المتحدث باسم الحكومة الشهر الماضي، أنه من المهم التأكيد على أن روسيا وإيران تتحملان مسؤولية خاصة عن الوضع في سوريا.
ربما تكون اللغة قد أسعفت المجتمعين بقصر إسطنبول في صياغة بيانات ختامية “براقة” لكن تطوّرات الأحداث لا تحمل المراقب على الجَزم بأن التوصيات ستمضى كما اشتهت الأطراف المنخرطة فيه .
اضف تعليق