سئمنا كفدراليّين من الردّ على التهمة الممجوجة، عنينا الربط بين مشروعنا والتقسيم. يعلم أيّ طالب علوم سياسيّة سنة أولى أنّ الأنظمة المركزيّة لا تصلح لادارة العلاقات الطوائفيّة بالمجتمعات التعدّديّة؛ ليس من قبيل الصدفة أن تتبنّى دولا كالهند، ونيجيريا، وبلجيكا، وكندا، وسويسرا، النظام الاتّحادي لهذا السبب بالتحديد. الفدراليّة، باختصار، نظام لادارة التنوّع يسمح لكلّ مكوّن بمجتمع طوائفي بادارة أموره ذاتيّا، دون أن يفرض مكوّن على آخرين خياراته. هذا ليس تقسيما، ولا استعلاء، بل تفكيرا بخلفيّة ليبراليّة وفق منطق (Vivre et laisser vivre).
ولكن هذا المقال ليس عن الفدراليّة، بل عن الدعوات الى التقسيم. لا أتبنّاها شخصيّا لسبب سأكتبه أدناه، ولكنّني أرفض شيطنتها، وأتفهّمها تماما. للتذكير: قام الميثاق الوطني على معادلة (لا شرق؛ ولا غرب). المسيحيّون تمكّنوا من احترام جانبهم من المعادلة لأنّ هويّتهم محليّة. الأمر كان أصعب على المسلمين لأنّ هويّتهم عابرة للحدود. ليست المسألة هنا أنّ المسيحيّين جيّدون و”وطنيّين”، فيما المسلمين “غير جيّدين”. ما أكتبه توصيفا وليس ادانة. وعندما تقول دار الفتوى كما قالت مؤخّرا ان المسألة الفلسطينيّة مسألة دين وعقيدة بالنسبة لها، فما عسى أن نقول؟ وكيف يمكن أن نحلم بالحياد، والحال هذه؟ الأمر عينه صحيح بالنسبة لحساسيّة شيعة لبنان المعدومة تجاه سيطرة ايران علينا. علماء جبل عامل أقاموا علاقات حميمة مع الصفويّين منذ قرون، وما أراه أنا سلبطة يرونه هم مساعدة شقيق أكبر لهم. أقول انّ هؤلاء لم يحترموا جانبهم من معادلة “لا شرق؛ ولا غرب” لأنّها تحمّلهم فوق طاقتهم. تاليا، انعدمت احتمالات نجاح التجربة اللبنانيّة، وهو ما بات واضحا لرأي عام مسيحي واسع كفر بتجربة لبنان الكبير، لأسباب مشروعة تماما.
لماذا، مع ذلك، أطرح الفدراليّة لا التقسيم؟ جوابي لا علاقة له برفض التقسيم، وهو أفضل من الفدراليّة على المستوى النظري المحض. يبقى أنّ السياسة ليست نقاشا أكاديميّا محضا. ينبغي النظر الى المعطيات الموضوعيّة المحيطة بأيّ مسألة، والبناء عليها، لا على المطلقات النظريّة. ومن الناحية الموضوعيّة المحضة، تحوّل العراق صوب الفدراليّة منذ العام 2003 – علاقة كردستان ببغداد فدراليّة. وسوريا اليوم بوضع لا حلّ له بالنتيجة غير الفدراليّة. عاجلا أم آجلا، ستنتهي الحرب الأهليّة السوريّة لأنّ لا حربا الى الأبد. وعندما يأتي وقت الحلّ، سيأخذ بعين الاعتبار أنّ للأكراد السوريّين منطقة سيطرة خاصّة بهم (روجافا)؛ وللسنّة منطقة سيطرة بدورهم (ادلب)؛ وللدروز كذلك (جبل الدروز)؛ وللعلويّين أيضا (مناطق سيطرة النظام). ادارة العلاقات بين هذه المكوّنات ستتجّه عاجلا أم آجلا الى حلّ مشابه للعراق. باختصار، عدا أنّ الفدراليّة نظام دولتين عربيّتين هما الامارات، وجزر القمر، الفدراليّة باتت أمرا واقعا حولنا في العراق، وسوريا. ليس ضربا من الخيال الافتراض أنّ دورنا يمكن أن يأتي، ولو بعد حين.
بالمقابل، تقسيم لبنان يفتح اعادة النظر بحدود الدول الأخرى بالمنطقة، وهذا ما لا تريده القوى الغربيّة. نفس الولايات المتّحدة التي أعطت الأكراد حكمهم الذاتي في كردستان العراق رفضت الاعتراف بنتائج الاستفتاء على استقلال كردستان، مع انّها أتت ساحقة لمصلحة انفصالها عن العراق عام 2017. باختصار: من يطرح الفدراليّة سيصطدم بالمحور الايراني في المنطقة، لا بالقوى الغربيّة. بالمقابل، من يطرح التقسيم، يصطدم بالايرانيّين وبالغربيّين معا. النتيجة معروفة سلفا.
لهذا السبب وحده، لا أدعو الى التقسيم. ومع ذلك، أرفض تخوين الأصدقاء الذين يدعون له. الخصم، من وجهة نظر فدراليّة، شديد الوضوح: أوّلا، مشروع الدولة الطائفيّة القائم حاليّا بلبنان. ثانيا، جماعة حلف الأقليّات. وثالثا، الرومنطيقيّون المتطرّفون، جماعة “الرسالة”، والطائف، وما شاكل. بالمقابل، للأصدقاء التقسيميّين وجهة نظر، ليست وجهة نظري، ولكنّها مفهومة، ومبرّرة تماما.
اضف تعليق